منبر البترا
مقالات

بين ثقافة الصورة وثقافة الكلمة..

منبر البترا -بقلم سليمان الطعاني:

إن كلمة culture تعني في الأصل الزراعة والفلاحة. وقد تطور مدلولها، لتفيد معنى مجازياً هو “تنمية بعض القدرات العقلية بالتدريب والمِران”، ثم لتدل بعد ذلك على “مجموع المعارف المكتسبة التي تمكن الفرد من تنمية روح النقد والقدرة على الحكم”.

لقد نقلت الكلمة إذن: من زراعة الأرض واستغلال خيراتها إلى تدريب الفكر وجني ثمراته، ومن “نتاج الأرض” إلى “نتاج الفكر”. وسرعان ما وقع التأكيد على أن مدلولها في ميدان الفكر يجب أن ينصرف إلى فعل الإنتاج أكثر من الإلحاح على الإنتاج نفسه، بمعنى أن المقصود منها يجب أن يكون ما يكسبه العقل من قدرات على التفكير السليم والمحاكمة الصحيحة، بفضل المعارف التي يتلقاها، والتجارب التي يخوضها، لا ما يضمه الفكر بين طياته من معارف ومعلومات. لقد ألح الكثير من الكتاب على هذا المعنى، ويكفي أن نشير إلى تلك التفرقة التي أشار إليها بعضهم بين ما سماه “الرؤوس المصنوعة جيداً” وما أطلق عليه: “الرؤوس المملوءة جداً” مفضلاً الأولى على الثانية.

ولما كان البصر حاسة تزود الإنسان بالمعلومات، تسهم – إلى جانب السمع – في التكوين الثقافي للفرد، كما تسهم أيضا في تشكيل قدرته على رؤية الأشياء، وهو كذلك وكما نعلم جميعا، أداة من أدوات المعرفة ـ في نظامنا ألقيمي ـ بدليل قوله عز وجل..”إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا”..

فإن له أي للبصر عدة أبعاد على خلاف السمع الذي ليس له سوى بُعدٍ واحد – ، فهو أكثر عمقا ، وله وظيفة توثيقية للأشياء ، وله علاقة بالبصيرة ، وكلما نقصت الثقافة البصرية – التي تعتمد على الرؤية والمراقبة والقراءة – ضعفت الفنون البصرية .

بينما الثقافة التي يحصل عليها المرء من السمع ، عادة ، ثقافة أقرب إلى العاطفة لأن في الكلمة المسموعة شحنة انفعالية تساعد على التكوين العاطفي للإنسان ، ومن هنا فإن نتيجة الثقافة السمعية غالبا ما تكون عاطفية ، لأن الصوت يحدث في المتلقي انفعالات نفسية معينة يتفاعل معها الإنسان سلبا أو إيجابا حسب ما يقتضيه الظرف ويتوقف على هذه الانفعالات تقبل الرسالة أو رفضها .

وعندما قيل أن الأذن تعشق قبل العين أحيانا، فهذا مردة إلى الانفعالات العاطفية التي تحدث في المتلقي عند سماعه الأصوات. لكن الباحثون في ميادين الإنسانيات يرون أن الصورة الفوتوغرافية أو التلفزيونية أصبحت العلامة الثقافية البارزة في هذه الأيام وحلت محل الكلمة المسموعة وأصبحت إلى حد بعيد هي مصدر الاستقبال والتأويل ، بعد أن كان النص المكتوب أو المسموع حائزاً على مركز الصدارة لقرون طويلة ، وتبعا لذلك ، فإن النخبة الحاملة للواء ثقافة القلم والخطابة ستتوارى خلف ثقافة جديدة صيغت بطرق جديدة غير مألوفة ، دون أن يعنى ذلك بالضرورة اختفاءها.

والصورة بوصفها قيمة ثقافية تقع في مرحلة تالية بعد الشفاهية والتدوين والكتابة وباعتبارها تمثل الصيغ التعبيرية في الثقافة ، عمت البشرية كلها وتساوت العيون في رؤية مادتها المصورة مبثوثة على جميع البشر كل البشر دون رقيب أو وسيط فأصبحت علامة على التحول من ثقافة النخبة إلى ثقافة تلعب الصورة دورا رئيسيا فيها بوصفها نصاً متحركاً قابلاً للتصديق .

ومن نتيجة تجلي الصورة بوصفها علامة ثقافية، ومصدر استقبال وتأويل ، دخلت فئات بشرية عريضة إلى عالم الاستقبال الثقافي، وهي تلك الفئات التي كانت مهمشة في السابق إذ لم تسعفها معرفتها بالقراءة والكتابة من الدخول إلى عالم النخب الثقافية ، جاءت الصورة لتكسر ذلك الحاجز الثقافي والتمييز الطبقي بين الفئات ، فوسعت من دوائر الاستقبال وشمل ذلك كل البشر فتوسعت القاعدة الشعبية للثقافة حتى صار الجميع سواسية في التعرف على العالم واكتساب المعارف الجديدة، والتواصل مع الوقائع والثقافات المختلفة . فتوارت النخبة، وفقدت دورها في القيادة والوصاية وتلاشت تبعاً لذلك رمزيتها التي كانت تملكها من قبل، وعليه لم تعد الثقافة تقدم رموزاً فريدة لا في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الفن والفكر وتلاشت الرمزية وحلت محلها النجومية .

في زمن ثقافة التلفزيون وثقافة الصورة إجمالاً، لم يعد هناك احتكار للمعرفة الذي سيشهد دخول فئات عريضة إلى عالم الاستقبال الثقافي، وهي تلك الفئات التي كانت مهمشة في السابق، إما لسبب ثقافي يعود إلى عدم قدرتها على القراءة بسبب الأمية، وإما لسبب اقتصادي يتمثل في عدم القدرة على شراء الكتب والصحف.

أن استقبال الصورة لا يحتاج إلى لغة وقراءة، وهو في الغالب لا يحتاج إلى الكلمات أصلا. أوالى أية سياقات ثقافية أو فكرية تذكر، ومنذ اختراع التليفزيون والسينما وتطور الوسائل السمعية البصرية بدأ يتبلور نوع من الصراع بين ثقافتين متباينتين: ثقافة الكلمة وثقافة الصورة.

ثقافة الكلمة هي ثقافة النخبة، ثقافة العقل (أو على الأقل الذهن بأساليبه الاستدلالية )، ولقد ظل الكتاب رقما صعبا في معادلة ثقافة الكلمة العالمية لسنوات عدة دون الاستغناء عنه وقد دلت إحصائيات القراءة في الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال ، نشرت قبل ثلاث سنوات ، انه في عام واحد تم طباعة 21 ألف كتاب جديد بينما في العام الذي سبقه تم إصدار 12 ألف كتاب جديد أيضاً مما يعني زيادة قد تصل إلى 100 في المائة، والأسلاف أحبوا الكتاب حباً كبيرا وصل إلى درجة العشق عند بعضهم، وذلك من وحي قناعتهم بأنه خير جليس لهم ومستودع معارفهم وسلوة أيامهم ، ويروى أن الخليفة هارون الرشيد دخل على ابنه المأمون وبين يديه كتاب يقرأه فسأله الرشيد: ما الذي بيدك؟، فقال المأمون: (بعض ما تشحذ به الفطنة ويؤنس به من الوحشة).

في حين أن ثقافة الصورة هي ثقافة الجمهور أو العمود الفقري للثقافة الجماهيرية ، كما أنها ثقافة الوجدان والانفعال والغرائز. ومبدئيا نقول إن ثقافة الكلمة هي امتداد للاستدلال العقلي، بينما ثقافة الصورة هي امتداد للإدراك البصريvisual literacy التي وضعت أسسه وسائل الإعلام المختلفة حتى أحدثت ما يسمى Media literacy ، وهي مقدرة الجمهور على تحليل وتقييم وفهم الرسائل الإعلامية التي تنتجها وسائل الإعلام المختلفة بالشكل الذي يمكنه ويشجعه من المناقشة وطرح الأسئلة حول ما يشاهده ، وبذلك يتحقق ما يسمى محو الأمية وردم الهوة ما بين المستهلكين للمواد الإعلامية وأدوات الإنتاج ، ويتحقق كذلك الوعي بما هو غث وما هو سمين من هذه المواد المنتجة . وتمكين الجمهور من أن يكون ماهرا في استقبال واختيار ما يناسبه، وبذلك يتحقق التفاهم وبناء وجهات النظر السليمة وتصويب المفاهيم، يعنى الإدراك البصري ، القدرة على تفسير ومناقشة وصياغة المعاني من المعلومات المعروضة في الصورة ، حيث يعتمد ذلك على مهارة قراءة الصورة ونقل المعاني ، ويشير كذلك إلى مجموعة الكفاءات البصرية التي يطورها الإنسان من خلال مشاهداته ودمج خبراته الحسية في ميادين التعليم والفن والنقد والبلاغة و السينما والفلسفة والتصميم و الرسوم والألوان وغيرها .

ولما كانت الصورة ذاكرة حية متجددة، ووثيقة صادقة لا تكذب أو تنحاز، لديها القدرة على كشف التفاصيل والبوح بكثير من الأسرار التي قد تعجز عنها الوثيقة المكتوبة، فإنها ما زالت تسير جنبًا إلى جنب مع النص المكتوب في رصد حركة الحياة وتوثيق تطورها في كثير من المجالات. ولها أهميتها كوثيقة تاريخية، وذاكرة ثقافية، ومرآة اجتماعية في تثبيت اللحظات التاريخية الهامة والحاسمة والاحتفاظ بها كما هي، والصورة ليست مجرد إطار يجمع بين زواياه مجموعة من الأشياء الجميلة أو المرعبة التي لا هدف لها، فعالم التصوير أصبح فنا له أسسه وعلما له قواعده وهو وإن كان أحد المجالات التي يتناولها العديد من الناس كهواية، لكنه مجال له استخداماته الجادة والهادفة في كثير من المجالات كالتعليم و الإعلام والطب وغيرها، وفي كل واحد من هذه المجالات له أساليبه وطرقه المناسبة للمواقف والاحتياجات المتنوعة.

تقوم الصورة بدور يحسب حسابه، وهي بهذا الدور تعين المستخدم على سهولة توصيل رسالته إلى المستقبلين، فالمراسل الصحفي الذي يعايش معارك ضارية مهما كانت بلاغته اللغوية فقد لا يتمكن من إعطاء وصف دقيق عن الأوضاع في تلك المنطقة ، ولكن إذا كانت لديه المهارة الكافية في التقاط الصور الفوتوغرافية وتتوفر لديه المهارة أيضا في فهم العناصر التي يجب عليه تضمينها في صوره، فهو مراسل ناجح إلى حد كبير، فالصورة قد تغني عن مقال.

وإن فقد بعض أو كل تلك المهارات وكان مجرد ملتقط عشوائي لصور عشوائية، فقد تذهب جهوده في مهب الريح، ولذلك فقد أصبح لزاما عليه استيعاب هذا المهارة ومحاولة السيطرة عليها ليكون متميزا في عمله يشار له بالبنان.

بقلم:سليمان الطعاني

Related posts

أدوار لا تشبهنا

السيّاب في جامعة البترا

الطالب والدفتر والقلم

اترك تعليقا

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com