كتب طارق العيسى
قسم الصحافة والإعلام الرقمي، جامعة البترا
رغم مساحته الجغرافية المحدودة ومناخه المتباين، يتميز الأردن بتنوعه الحيوي الغني، إذ تحتضن أراضيه عددًا من النباتات النادرة والمهددة بالانقراض، بعضها لا ينمو إلا في مناطق محدودة جداً حول العالم. لكن هذا الإرث الطبيعي يواجه تهديدات متزايدة بفعل التوسع العمراني، والتغير المناخي، والرعي الجائر، الأمر الذي يتطلب وضع استراتيجية وطنية متكاملة لصون هذه النباتات والحفاظ عليها وضمان استدامتها.
نحو نموذج وطني لحماية النباتات النادرة
تعد الحديقة النباتية الملكية مشروعاً وطنياً متميزاً، بدأ كفكرة طموحة تبنتها سمو الأميرة بسمة بنت علي، إذ تأسست الحديقة النباتية الملكية عام 2005، بجهود مشتركة بين جهات محلية على رأسها وزارة الزراعة ووزارة البيئة في الأردن، وبالتعاون مع مؤسسات بيئية محلية ودولية، وبمشاركة فريق من الخبراء والنشطاء في مجال البيئة وحماية التنوع البيولوجي الفريد في الأردن. تمتد الحديقة على مساحة 1800 دونم في منطقة تل الرمان، وهي مخصصة لحماية التنوع الحيوي والنباتات المحلية النادرة والمهددة بالانقراض، وتضم أكثر من 600 نوع من النباتات، بما في ذلك النباتات النادرة والمهددة بالانقراض.
ارتكز العمل في الحديقة على إطار بيئي وإنساني، يقوم على البحث العلمي لتحقيق رؤية الحديقة لتحقيق مجتمع يعيش في توازن مع بيئته. وتعزز الحديقة مشاركة المجتمع المحلي وتمكينه لتحقيق أهدافها. وقد أعلنت الحديقة منطقة ذات حماية خاصة من قبل وزارة البيئة في 19/6/2014. في هذا التحقيق، نسلّط الضوء على الآليات الوطنية المتبعة لحماية النباتات النادرة، التي تُنفذ على الأرض.
طرق الحفظ: من بنك البذور إلى المعشبة الوطنية
تشير المهندسة غدير أبو عيد رئيسة القسم المختص بالتنوع الحيوي إلى أن أولى خطوات حماية النباتات المهددة تبدأ من حفظها في بنك البذور أو المعشبة الوطنية، في ظروف تخزين طويلة الأمد داخل حافظات مخصصة لذلك يمكن أن تحفظ البذور لمدة تزيد عن 20 سنة، وهناك أيضًا الحفظ قصير الأجل الذي يستمر نحو 10 سنوات.” كما تُجمع عينات جافة من هذه النباتات وتُخزن في المعشبة، مما يُمكّن الباحثين من دراستها لاحقًا ومقارنتها بعينات من فترات مختلفة. بعد الحفظ، تأتي مرحلة إكثار النباتات في المشاتل المتخصصة، وهي خطوة تمهيدية لإعادة هذه الأنواع إلى بيئاتها الطبيعية. فتكاثر النباتات في بيئة خاضعة للرقابة، يضمن نموها بطريقة سليمة، ثم يعاد زراعتها في موائلها الأصلية كجزء من مشاريع الاستعادة البيئية.
وتؤكد المهندسة أبو عيد أن جميع فرق العمل تعتمد على فهم دقيق للنباتات وظروفها المناخية، لا سيما الأنواع الصنوبرية المنتشرة في مناطق معينة، حيث يُعاد تأهيل البيئة لاستقبال هذه الأنواع من جديد. وتخضع كل نبتة لبروتوكول خاص يتضمن توقيت جمع العينات، آلية التخزين، وطريقة الزراعة لاحقًا. وتقوم فرق متخصصة برحلات ميدانية من الشمال إلى الجنوب في مواسم محددة، لجمع العينات حسب مرحلة الإزهار أو النضج، لأن لكل نبات فترة زمنية مثالية للجمع والتخزين. وتضيف أن بعض البذور تحتاج إلى معالجات أولية خاصة مثل التخديش أو النقع بالماء الساخن لفترات محددة قبل أن تُزرع، وهو ما يُعرف بالمعاملة المسبقة للبذور.
وتختم المهندسة غدير أبو عيد حديثها بالتأكيد على أن حماية النباتات النادرة ليست مسؤولية بيئية فقط، بل واجب وطني، واستثمار طويل الأمد في هوية الأردن البيئية والثقافية. فكل نبتة نُعيد إحياؤها في بيئتها الأصلية هي خطوة نحو مستقبل أكثر توازنًا واستدامة.” وأكدت أن الحديقة تلتزم بأعلى المعايير الدولية في هذا المجال، وهي تشكل المظلة التي تضع الاستدارة البيئية التي نعمل من خلالها، سواء في الزراعة، استخدام المبيدات، أو حتى في التفاصيل الدقيقة.”
حفظ البذور وتوثيقها: عملية معقدة
وتؤكد المهندسة مروة نصر الله المسؤولة عن وحدة البذور، أن العمل على حفظ البذور يتم في مختبرات الحديقة النباتية من خلال خطوات دقيقة تبدأ بالفحص والتعقيم الأولي. إذ نقوم بفحص البذور بدقة تحت المجهر، نتأكد أنها خالية من الشوائب، الحشرات، أو التلف، لأن البذور التالفة لا يمكن تخزينها أو الاعتماد عليها مستقبلاً. بعد التأكد من الجودة، يتم وزن البذور وعدّها، ويُعد تقرير مرجعي مفصل يُسجل كل خصائص العينة. بعد ذلك، توضع البذور في أوعية محكمة الإغلاق، إلى جانب مادة سيلكا جل Silica gel التي تمتص الرطوبة الزائدة. وعندما يتغير لون هذه المادة من الأصفر إلى الأخضر، فهذا يعني أن العينة قد امتصت ما يكفي من الرطوبة، ويتم استبدال المادة وفق بروتوكول زمني.

نقل البذور وحفظها
وتضيف المهندسة مروة نصر الله أن البذور تنقل إلى وحدة التخزين القصير الأمد بعد تجفيفها، حيث تحفظ من خمس إلى سبع سنوات حسب نوعها. وتُخزن بدرجات حرارة من صفر إلى 4 مئوية، وبرطوبة داخلية تتراوح بين 3% إلى 7%، في ثلاجات مصممة خصيصًا لهذا الغرض. أما التخزين طويل الأمد، فيُجرى في درجات حرارة سالب 18 إلى سالب 20 مئوية، في أكياس مفرغة من الهواء ومحكمة الإغلاق. وتُصمم هذه الوحدات لحفظ البذور حتى 100 عام، خصوصًا تلك الخاصة بالنباتات النادرة والمهددة بالانقراض.

في أحد أقسام الحديقة النباتية الأردنية، رافقتنا المهندسة حنان المفضي في جولة داخل المعشبة الوطنية، ذلك المكان الذي يحتفظ بنسخ محفوظة من النباتات البرية المحلية، بطريقة تضمن بقاءها كمرجع علمي لعقود وربما قرون قادمة.

تقول المهندسة المفضي نحن هنا نحفظ العينات منذ عام 2006، واليوم لدينا ما يقارب من (7000) عينة تمثل نحو 50% من النباتات البرية الأردنية. تجمع العينات من الميدان، وتُجفف ثم تُضغط باستخدام مكابس خاصة مصنوعة من الخشب، الكرتون، والجرائد. الهدف هو الحفاظ على شكل النبات وجميع تفاصيلها، تمامًا كما لو تم “تجميده عبر الزمن”. نستخدم طريقة الضغط مثل حفظ الوردة في كتاب، لكن بأسلوب علمي دقيق يضمن بقاء كل معالم النبات ظاهرة. وبعد ذلك تتم أرشفة العينات في ملفات خاصة، مرتبة حسب الاسم العلمي للنبات (الجنس والنوع)، وتُخزن في خزائن معدنية داخل المعشبة وفق نظام تصنيفي صارم.

وتضيف المهندسة المفضي: إلى جانب العينات الورقية، بدأت الحديقة منذ سنوات بجمع ما يُعرف بـعينات DNA وهي أجزاء صغيرة من النبات (عادة بحدود 1×1 سم) تُحفظ في محاليل خاصة، تمهيدًا لاستخدامها في دراسة البصمة الوراثية مستقبلاً. حتى الآن جمعنا ما يقارب 2500 عينة DNA، هدفها أن نمتلك مرجعية جينية دقيقة للنباتات البرية في الأردن. كل عينة في المعشبة لها هوية كاملة. لا تُقبل أي عينة من دون تسجيل بياناتها التفصيلية: إحداثيات الموقع، وصف دقيق للنبات، اسم الجامع، تاريخ الجمع، وخصائص الموقع مثل نوع التربة أو الظروف المناخية وقت الجمع. إذا لم تُوثق هذه البيانات بدقة، تفقد العينة قيمتها.
المشاتل: قلب العمل الميداني
برفقة المهندسة غدير أبو عيد، واصلنا جولتنا في الحديقة النباتية الأردنية لنصل إلى المشاتل، التي تمثل قلب هذا المشروع، إذ تتوزع المشاتل الثلاثة على مساحات مختلفة، وكل مشتل مخصص لإنتاج أنواع نباتية محددة بحسب متطلبات الحرارة والظروف البيئية. ما يميز الموقع الجغرافي للحديقة، بحسب المهندسة أبو عيد، هو وجود فروقات في الارتفاع تصل إلى 300 متر، مما ينتج عنه تنوع مناخي يتيح زراعة نباتات مختلفة في بيئات متباينة ضمن نفس الموقع. يختص المشتل الأول بالنباتات التي تحتاج درجات حرارة مرتفعة، ويقع في منطقة أقرب للسد. أما المشتل الثاني فمخصص للنباتات المعدّة للبيع، ويضم بيتًا بلاستيكيًا (greenhouse) يحتوي على أنواع متعددة من النباتات، جميعها موسومة ببطاقات تعريفية تتضمن الاسم العربي والعلمي، الحالة البيئية، والرقم التعريفي.

وتُشير أيضًا إلى وجود مجلدات مرجعية تعمل الحديقة عليها، تشمل تقييمًا علميًا لأنواع النباتات البرية في الأردن، وتوضح لكل نبات حالته، موقعه الجغرافي داخل الأردن عبر خرائط، ومعلومات مساندة تُفيد الباحثين والجهات المختصة.
حين تتحول الحديقة إلى مرجع وطني
من خلال هذه الجولة الميدانية مع فريق العمل، يتضح أن الحديقة النباتية الأردنية لا تقتصر على كونها مساحة خضراء أو مكانًا ترفيهيًا وحسب، بل تمثل منظومة متكاملة تعمل وفق بروتوكولات علمية صارمة. يتجلى فيها التوازن بين الأبحاث البيئية، والأنشطة التعليمية، ومشاريع الحفظ والإكثار للنباتات المهددة. تقول المهندسة أبو عيد “نحن لا نحفظ النباتات فقط، بل نحافظ على هوية بيئية وطنية مهددة بالزوال.” هذا الالتزام، والتوسع المستمر الذي شهد المرحلة الثانية جاء بدعم ملكي مباشر، ويبدو أن الحديقة تمضي في طريقها لتكون مرجعًا وطنيًا وإقليميًا في مجال الحفاظ على التنوع النباتي. لكن التحديات ما تزال قائمة، وعلى رأسها تغير المناخ، وشح المياه، والدعم المالي، وهي قضايا ستحدد مستقبل هذا المشروع الحيوي في السنوات القادمة.

