كتبت شهد صلاح العدوان و وردة محمد الجبالي
لَمْ تكن الزراعة يوماً مِهنةً تقليديَةً يتوارثها الناس، بل كانت وستظل عموداً للأمن الغذائي، وأساساً للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي ولا سيَما في الدول النَامية. وفي الوقت الحالي، يواجه هذا القطاع تحديات غير مسبوقة. أحدى هذه التحدَيات هي التغيّرات المناخيّة التي باتت تُهدّد كلّ ما كان يُعدّ ثابتاً في الدورة الزراعية الموسميَة. ومن بين العوامل التي تركت اثاراً واضحاَ على جودة الإنتاج الزراعي وكميته هي الحرارة المرتفعة، وتقلّب المواسم المطرية، والجفاف الممتد، وتكرار الظواهر الجوَية المتطرفة.
في هذا التحقيق نسلَط الضَوء على الأثار العميقة للتغّير المناخي على الزراعة، مُستندين إلى شهادات المزارعين الذين فقدوا أراضيهم أو خسروا محاصيلهم، إلى جانب آراء خبراء في الزراعة والمناخ يُحللون التحولات الحاصلة. فهل نحن على اعتاب أزمة غذاء مُقبلة؟ وهل تُملك الحكومات خططاً واقعّية لمواجهة هذا الخطر؟ أم أنَ المزارع البسيط سيحمل العبءَ وحَده؟
المناخُ والإهمالُ يدفعانِ الزراعة نحو الانهيارِ في إقليمِ الوسطِ
في منطقة الأغوار يتفق المزارعون: “صلاح عبد الجليل العدوان ، مهند علي بركات العدوان هايل عبد الجليل العدوان” والمهندسون الزراعيون: ” ياسين أحمد السعود، ناجح ناجي حسن” على أن الزراعة في إقليم الوسط قد واجهت العديد من التحديات بسبب تغيُّر المناخ، وإهمال الحكومة، وغياب الدعم الحقيقي للمزارعين الذين يُصارعون وحدهم. يُعبّر بعض المزارعين عن استيائهم من واقع القطاع الزراعي بعبارات مؤلمة، ومنها:
” الموز يحتاج سنة ليُعطي إنتاجًا، وإذا زرعته أكثر من ثلاث سنوات متتالية تتعب الأرض، والمطلوب مني أن أظل أزرع وأروي وأحافظ، وهو لا يُدخل مردودًا حتى تكلفته.”
مزارع آخر يقول: “القمحُ يحتاج أجواءً معتدلا وماء، والبذورُ أصبحت غالية، ولا يوجد دعمّ حقيقي يصل إلى المزارع، لا من الحكومة ولا من صندوق الزراعة.”
نُتعب الأرض ولا أحد يتعب نَفسه من أجلنا
ويشكو المزارعون من غياب الرقابة وارتفاع أسعار السماد والبذور، قائلين: “وجود وزارة الزراعة محدود، والدعم لا يصل، والذي يُريد أن يزرع القمح أو الخضار أصبح يحتاج إلى معجزة.”
من الحُلول المُمكنة التي يطرحها المزارعون والتي تتطلب وعيّا حقيقيا وتعاوناً بين الحكومة والقطاع الخاص منها: تَطوير مشاريع السدود وتأمين مصادر مياه مستدامة، وتسهيل شروط ترخيص الآبار بما يناسب المزارعين، وتقديم دعم مالي وفني حقيقي لتحسين جودة الإنتاج، وضبط استخدام الهرمونات غير المشروعة للحفاظ على صحة الناس والمجتمع، وإعادة هيكلة التمويل الزراعي لمنع رهن الأراضي لضمان استمرارية الزراعة، وتعزيز رقابة الأسواق وحماية المزارعين من الاستغلال.
ماذا تقول الجهات الرسمية؟
تقول المرشدة الزراعية في وزارة الزراعية ناهدة عبدالله أن هناك دور محوري لمديرية الزراعة في دعم القطاع الزراعي، ولا يقتصر هذا الدعم على تقديم الإرشاد الفنّي وخدمات الزّراعة، ويشمل أيضًا توعية المُزارعين بحقوقهم وواجباتهم، وتوجيههم لأهميّة التعامل الرّسمي. وأوضحت أنّ هناكَ مشكلة حقيقية، حيث تمتنع نسبة كبيرة منَ المُزارعينَ عن تسجيل أراضيهِم أو محاصيلهم لدى الجهاتِ الرسميّة، مما يُودي إلى جعلهم خارج إطار الحماية والدّعم الحكومي، خصوصًا في حالاتِ الكوارثِ الطبيعيّة أو الخَسائر النَّاتجةِ عن الأمراض أو الآفاتِ الزّراعيّة.
وأضافت أنَ الغياب عن السّجلَات الرسميّة يُؤدي إلى حرمانهم منَ الحُصولِ على التعويضات التي تُمنح عادة للمُزارعين المُسجّلين فقط، ممَّا يُعمّق حجم الخَسائر التي يتكبّدونها، وتعمل الوزارة حاليًّا على تنفيذ الحملات التوعويّة في مختلف المناطق الزراعيّة، بهدف إيصال هذه الرسائل للمُزارعينَ وتحفيزهم على التّسجيل للاندماج ضمن مَنظومة الزّراعة الرسميّة لضمان استمرار الدَعم وتَوفير الحماية لهم في مُواجهةِ التحدّياتِ المتزايدة التي يواجهها هذا القطاع الحيوي.
يقول احمد عبد الفتاح عبد الهادي رئيس الشكاوى والتحكم في مديرية الزراعة أن خطّة الوزارة لمواجهة شُح المياه تتضمّن في البداية تكثيف الحملات التفتيشيّة والأمنيّة على قناة الغور ومصادر المياه، مثلما تم العمل على الآبار المخالفة، للحد من الاستنزاف غير القانوني. وهناك خطّة لإنشاء سدود جديدة وتوسيع السدود القائمة، بهدف زيادة كميّات المياه المخزنة والاستفادة منها في فترات الجفاف. وفيما يتعلّق بشرط الامتلاك السابق البالغ 120 دونمًا ، فقد تمّ تعديل القانون ليصبح خمسين دونمًا، وقد تم تنفيذ القرار فعليًّا منذ أكثر من ستّة أشهر. أما فيما يخص ترخيص الآبار، فتمّ فرض قيود واضحة لمنع العشوائية في الحفر، والتي كانت تؤدي إلى استنزاف المياه بطرق غير شرعية. وقد أعلنت الوزارة مؤخرًا عن حملة لتصويب أوضاع الآبار المخالفة، وذلك من أجل إصدار رُخص قانونيّة وتنظيم استخدامها بشكل رسمي .
الخطط البديلة التي وضعتها الوزارة تشمل بناء سدود جديدة، واستغلال مياه الأمطار، وحفر آبار جديدة وفق دراسات دقيقة، بالإضافة إلى تنفيذ دورات مكثّفة حول أساليب الزراعة الحديثة باستخدام نظام الريّ بالتنقيط. كما تم العمل على إعداد جدول زراعي حدّد أنواع الزراعة المسموح بها وكميات المياه اللازمة، للحد من الهدر وضمان استدامة الموارد المائية والزراعية. وربطت الوزارة قناة الغور بعبّارات بدلًا من الانسياب العشوائي للمياه، بهدف تنظيم الجريان وتقليل التعديات على المصادر المائية.
وختاما نقول كانت الأرض عبر العصور شاهدةً على أيادي الإنسان التي زرَعَتْها، وسقتها، ورَعتها. وفي عصرنا الحالي، نتأمَّلُ التَّغيرات المناخية التي تركت بصمتها على كل شيء. أصبحت الأرض غير قادرة على تحمل الصمت أمام أفعالنا، ونرى التحولات صعبة، لكن ربما تكونُ دعوةً خفيةً من الأرضِ لنعود إلى أصلِنا، لنقدّر ما منحنا إياه اللّه من موارد، ولنُحسن استثمارَها قبلَ فقدِها.
الأسئلةُ التي نطرحها ليست مجرد استفسارات عن السبب، بل عن دورِنا في هذا التّحول: هل كنا جزءًا من الحلِّ أم الخرابِ؟ أم كنا شهودًا على ما صنعناه في الوقتِ الحالي؟ الحقيقةُ التي لا ندركها أنّ الزراعةَ ليست مجردَ محاصيل نسقيها، بل هي جزءٌ من مسؤوليتنا الجماعية التي تتطلب منا الوعيَ والالتزامَ. يجبُ علينا اتخاذ قرار واحد نتفق عليه هو الحفاظ على الأرض، لأنَّ كلَّ شيءِ يبدأُ منها، ونحن نقرّرُ إن كنّا نُبقيها خصبةً أم نتركها تصارعُ مصيرها وحدها.

