منبر البترا
مقالات

الكابتن إمرأة

في الشتاء الماضي ،كنت عائدة بالطائرة إلى عمان .وفي المطار وعند الحاجز الذي يستلم فيه الموظف جوازات السفر ،نظر إلي الموظف نظرة متفحصة ومن ثم أعاد لي جواز سفري ،وفي الطائرة أعطيت الورقة للمضيفة ودلتني على مقعدي لأجلس عليه ،فجلست عند مخرج الطوارئ تماما ،وأستطعت أن أمد ساقي لوسع المساحة  المتاحة مقابل مقعدي ،وجاء صديقين ليجلسان في المقعد الخلفي تماما  وجلست بجانبي سيدة صينية ،فتحت كتابها فور جلوسها .

وجاءت المضيفة لتقول لي الإرشادات الواجبة علي فعلها في حال لا قدر الله هبطت الطائرة هبوط إضطراري ،وكنت أحفظ الإرشادات لأني جلست بطائرات عديدة في نفس المقعد .

وتحدثت  الكابتن مرحبة ، شارحة لتفاصيل الرحلة .

فسمعت أحد الرجلين اللذين جلسا في المقعد الخلفي لمقعدي يقول لصديقه” أهي المضيفة ..لم أسمع بداية حديثها ؟”

فأجاب صديقه “لا ..أعتقد هي الكابتن نفسها ،امرأة. “

فقال الأول “لا!!! يازلمة !!شو بتحكي إنت ؟!! يالله توكلنا على الله “

وماهي إلا دقائق إلا وبدأت الطائرة تستعد للإقلاع ..فواجهت صعوبة في جو شتاءي شديد البرودة .

وأسمع الرجل يقول “أتفضل ..مش عارفة تطلع الطيارة!! لا تقوم توقعها هالمجنونة !!وشو كمان باب الطوارئ ،تجلس بجانبه ست!!”

وكنت أضع في أذني سماعات هاتفي، لكني لم أكن أسمع شيئاً لا موسيقى ولا أي صوت ،فكان حديث الرجلين يصلني بشكل واضح وهما يحسبانني لا أسمع حديثهم .فأسمع مسباتهم علي بأذني .

فأضاف الأول ” يا زلمة هي شكلها طرمة- طرشة – ..مش سامعة إشي !”

فأقلعت الطائرة ..وبدأت أسترخي وأخرجت كتابي وبدأت أقرأ ..وكلما إرتفعنا بالسماء أكثر، كلما إستمتعنا بمنظر الغيوم المحملة بزخات المطر .

والرجل لا يكف عن تذمره من كون الكابتن امرأة ،ويندب حظه متشائما بحدوث كارثة لأن الكابتن امرأة !

ومن يجلس بجانب مخرج الطوارئ أيضاَ امرأة!!

ويكيل على النساء مسبات، مستحضرا كل فشل مرت به سيدة خلال تجاربه وقصصه في الحياة ،عن حظة مع طبيبة أسنانه ، وعن مزاجية مديرة شؤون الموظفين في شركته و..و..و.. ويعود ويقول:”والمصيبة حتى الخطوط الجوية مسترخصة وجايبه الكابتن امرأة!! ومن على مخرج الطوارئ على حد تعبيره، الصينية الطرمة ! وقد لمح وجه جارتي في المقعد حينما جلس في مقعده وكنت أنا أعبث في حقيبتي أثناء جلوسهما فلم يلمحا وجهي .”ويضيف” والله يا أخي ..لا ينفعون بأي أمر، مش عارف ليش الله خلقهم!!”

فيعلق صديقه” ما تخاف ..توكل على الله ..أصلا الطيار الآلي من يطير بالطائرة ،مش الكابتن!”

فيقول الأول”بس يا أخي إللي قاعد يتحكم بالطيار الآلي امرأة ..يعني تخيل أرواح هالبشر كلها، بيد وحدة ست !شو هالحظ!”

ومازلت أضبط نفسي وأحاول التركيز فيما أقرأ والإستمتاع بالرحلة ،وتجاهل كل قصصه .

وعندما قاربت الرحلة على نهايتها وبدأت الطائرة بالهبوط التدريجي ..بدأت الطائرة تميل في الأجواء ميلان غير عادي ،ومن ثم ترتفع ،وتهبط مرة أخرى ،وحل الصمت على كل من في الطائرة.

حتى جارتي الصينية إختارت أن تغلق كتابها، وبدأت تغلق وتفتح عينيها بسرعة .

وجف ريقي تماماً ..وبدأت أشعر بضيق شديد .

والرجل الأول يحدث الثاني قائلا: “طيب مش عارفة اطلعها ولا تنزلها ولا تثبتها حتى في الجو ..يا أخي الله لا يوفق النسوان، كل ما يحطوا إيدهم بشغلة بخربوها !.

وبدأت آخذ نفساً عميقاً وأحبسه في صدري، وأخرجه بهدوء ، وحين ارتفع صوت بكاء الأطفال في الطائرة ، بدأت بقراءة الفاتحة والتشهد .

ولم أعد أرى أي أحد من طاقم الملاحة الجوية ، فأعاود قراءة الإرشادات المكتوبة على مخرج الطوارئ ،كم كيلو؟؟ وزنه 15 عشرة كيلو  ، كيف أحمله وكيف أخُرج الناس و…و انظر من النافذه فلا أرى أي ملامح ليابسة قريبة .

فأنظر فوقي إلى أقنعة الأكسجين ،تحسبا لأي طارئ ..

وللحظة مرت أمامي صورة أطفالي الثلاثة ، وكيف حالهم من بعدي .

أسنخرج من الأزمة أم تراها النهاية ههنا !

وماهي إلا دقائق معدودة وعاد كل شئ طبيعي ،لنسمع صوت الكابتن تقول عن سرعة الرياح وأننا نتعرض لمطبات هوائية شديدة ،وترجو من الجميع الهدوء  والإلتزام بربط أحزمة الأمان ،وتحدثت بالعربية فقط ولم تعد ما قالته بالإنجليزية كما المعتاد.

فأخرجت دفتري وكتبت التالي ..إلى الكابتن

سيدتي أعتمد على الله وحده ومن ثم عليكِ .. يا من جعلتيني برفق  ألمس حدود السماء ،فبرفق أجعليني ألمس الأرض .

أثق بك وأعرف أنك قادرة ،لستِ كلام على الورق ، تقفين بقوة وسط الشدة،وسط الرياح ،لا أحد في الدنيا أفضل منك ،أنتِ مهمة ..في مكانك مهمة!

أعيدني إلى أطفالي لُتفسري للعالم بأسره معنى حُبك وعطاءك ..فما تمنيتُ يوماً أن أعيش العُمر عُمرين أو ثلاثة أو أربع ،إلا بعدما شاهدت إبتسامة إبنتي .

لا يفكر بجنون الأبدية إلا كل مُحب .

بقبضتك القوية أعيدني بقلبك الحنون أهبطي بي ،تخلصي من أوهام لاحقتنا سنوات طويلة ،وأهبطي بي!

لم يبق لنا مكان في السماء فبحثي لي عن مكان في الأرض !

إن ضعف قلبك سيدتي فخذي قلبي لترين أي حب وثبات به ،وأهبطي بي .قريبة لي ولا أراك ولم أعرفك.

 يا من حملتِ الرجال  تسعة أشهر ،قادرة أنتِ على حملنا جميعا ساعة من الوقت .

 إن أشار الناس عليك يوماَ أنك ضعيفة يكفيك فخرا أنك  تحملين كل الآزمان ،على كتفيك تحملين وفي قلبك تحملين .

لا أعلم ماذا عليكِ أن تفعلي لكي تتجاوزي المطبات ،لكن ما تعلمته في هذه الحياة ،أنه حتى الأشياء المعقدة ، مبدؤها بسيط .

وصورت الرسالة على هاتفي الجوال وطويت الورقة وطلبت من المُضيفة ان تُسلم رسالتي الى الكابتن،وهبطت الطائرة هبوط جميل .

وبدأ الركاب يستعدون للخروج ،فوقفت أحمل حقيبتي ،فوقف الرجل الأول يحاول حملها لي قائلا “عنك ستي سأنزلها لك”

وبفظاظة حاولت أن أكبحها في داخلي طوال الرحلة  أجبت “شكرا ..لستُ محتاجة لشهامتك ،من لم يُشرفه حمل والدته له في أحشاءها تسعة أشهر ،لا يشرفني أن يحمل حقيبتي لي. “

وأنزلتها بقبضة من حديد ،وأنا أسمع أخر كلماته “يازلمة طلعت أردنية !!”

ومشيت متجهة إلى بوابة الطائرة لأجد طاقم الطائرة ينتظر على بوابة الخروج ،وفور ما رأتني المضيفة التي سلمتها رسالتي ،أشارت بيدها  علي، لأنثى جميلة تقف بجانبها  ،فعرفت أنها الكابتن ،فقلت ” أحسنتِ ..حمد لله على السلامة” فابتسمت وقالت “الأحوال الجوية سيئة للطيران اليوم ..شكرا لكلماتك “وصافحتها ومشيت متجهة خارج الطائرة .

تعامل مع ذاتك بإنسانية ..ولا تفكر بجنسك ،ذكر أنت أم أنثى ،فكر فقط أنك انسان ،وتخلص من حصارك بضعف قيمة الذات .

فكر بقيمة روحك ،وقيمة عقلك ،وقيمة حواسك ،وقيمة ارادتك،وقيمة جسدك .

وتذكر لا تحكم على ذاتك أو على الأخرين ..بشكل مُسبق  .

  السلامة للجميع.. اللهم آميين  …طاب يومكم جميعاَ

 

 بقلم:هيا عاشور

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Related posts

بين ثقافة الصورة وثقافة الكلمة..

أساليب تدريس اللغة العربية

عامل وطن.. بقلم:أ.هيا عاشور

اترك تعليقا

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com