منبر البترا
تقارير

رحل حاتم وتستمر التغريبة

أنس العشا – مادة تطبيقات في الإعلام الرقمي

خسرت الحركة الثقافية والفنية واحد من أهم الأسماء العربية وأكثرها إبداعا وتفردا، المخرج حاتم علي، الذي رحل تاركاً خلفه رحلة عظيمة من المنتجات الفنية التي لا تتكرر، والتي كانت محصلة مسيرة رجل عرف اللجوء فقدم التغريبة الفلسطينية، وكان محباً فكانت النتيجة أعمال عائلية بطبيعة الفصول الأربعة وعائلتي وأنا، ومن من لم يعشق تاريخنا عندما عرف من خلاله الخليفة عمر والناصر صلاح الدين والقائمة تطول، ودع شامه بجنازة مهيبة، و تجمع جميع زملائه ليشهدوا ظهوره الأخير، دموع كل العرب عانقت رحلته الأخيرة.

في المشهد الأخير من الحلقة 22 من الجزء الأول لمسلسل الفصول الأربعة والذي أخرجه الراحل حاتم علي، كانت الحلقة عن جنازة الشاعر الكبير نزار القباني، وقف الفنان الكبير خالد تاجا والذي أدى دور كريم وقال (الدنيا لسى بخير، اذا في بلد كامل بينزل لجنازة شاعر)، ولإنصاف القدر تكرر المشهد بجنازة حاتم علي، ربما ليذكرنا أن (الدنيا بخير).

لم يكن ماراً عادياً بين الكلمات العابرة، ولا يمكن اختزاله بعمل أو نص قدمه، إلا أن تفرده بتقديم القضية الفلسطينية بطريقة هي الأبرز من خلال “التغريبة” ستقودنا بهذه المادة للتركيز على تلك التجربة، ليس لأنها الوحيدة، بل لأهمية القضية التي تشكل مقياس أمانة وحرية الشعوب، فالاحتلال الأبشع والذي يكاد أن يكون الأخير بالعالم يشكل التهديد الأبرز للبشرية، والفنان الذي يجابهه يخلده التاريخ .. فمن منا ينسى حديث الرسام الفلسطيني الراحل ناجي العلي : “من سيكتب لفلسطين أو سيرسم له، يعتبر نفسه ميت”.

ذهبنا لمنزل الفنانة أناهيد فياض للحديث عنه، ولتصفح ذكرياتها معه فهي من عملت معه في التغريبة الفلسطينية، عصي الدمع، والمسلسل البدوي صراع على الرمال، فكان السؤال الأوضح والأكثر مباشرة، من أين أتت خصوصية حاتم علي، ولماذا تفرد بمنتوجه الفني وبمحبة الجماهير بهذه الصور، فكان ردها كافيا ومليئاً بالمشاعر : ” أعتقد أن ما أعطى الأستاذ حاتم هذه الخصوصية في عالم الإخراج التلفزيوني، أمران: الأول، أن لديه مخزون معرفي وثقافي كبير تأتى من بيئته وتجاربه الشخصية من جهة، ومن قراءاته واجتهاداته من جهة أخرى، هذا المخزون سمح له ببناء أعمال غنية تحمل الكثير من التفاصيل والمصداقية والحساسية.

الأمر الثاني أن حاتم علي كان يعمل بإخلاص لايمكن أني ينكره أحد، فهو مخلص للنص الذي يعمل عليه، للفكرة التي يتبناها، ومخلص للنتيجة التي يرجوها، فلا يتنازل عن مبتغاه ويترجم هذا بحزمه وجديته في مراحل التحضير للعمل وفي وقت ومكان التصوير.

مكان العمل الذي يقوده حاتم يكون مشدوداً منضبطاً كما العاملين معه. ولا يحتمل الأستاذ أي تقصير أو استسهال من قبل أيّ من المشاركين في العمل إن كان من الكادر الفني أو التقني أو الإنتاجي، وهو في المقابل يسخر لهم ما يحتاجونه لأداء مهامهم على أكمل وجه.

وبهذا يكون هو قائد العمل الفعلي، هذا ربما قد لا نراه في أعمال أخرى، فقد تشعر أن المنتج  أو النجم هو قائد بعض المسلسلات مما يؤدي إلى اختلال لابد أن يصل للمشاهد.

أخيراً أعتقد أن الكثير من الفنانين والفنيين  فقدوا شريكاً مهنياً قد لا يعوض، والمؤلم أكثر أن المشهد الفني العربي قد يحتاج إلى وقت طويل قبل ظهور حالة شبيهة بالأستاذ حاتم علي، في وقت يشعر المنتمي للقطاع الفني أنه قد يتشتت بسهولة عن بوصلته أمام الإلهاء الذي تسبب الظروف المتردية في المنطقة ثقافيا وحتى سياسياً واقتصاديا.”

لنعود بعد ذلك للتغريبة، فروت لنا قصة رفضها للمشاركة بالعمل بالبداية بسبب عدد المشاهد القليلة لدورها، إلا أنها عندما قرأت السيناريو وعلمت من هو الكاتب ورمزيته للفلسطينين، قررت المشاركة بالعمل بعاطفة اللاجة الفلسطينية المحرومة من وطنها، رغم خوفها من أن يكون المخرج “حاتم علي” غير معجب بإدائها بأعمال سابقة رفقته ولذلك قلل من مساحة دورها ، وتبين فيما بعد أن تلك الأفكار لم تكن صحيحة.

وعن سبب ظهور المسلسل بهذه الصورة الإبداعية، قالت : كان حقيقيا، لم يحتج حاتم علي أن يجعلنا مجتمعا فاضلا ليظهر نكبتنا، بل أظهر كل صور المجتمع الفلسطيني في ذلك الوقت، البشع والجميل، فكان المختار الظالم موجود، والفلاح الثائر كذلك، وبينهما عائلة جاهلة تقتل فتاة لأنها تُحب، وطفل لا يستطيع التعلم بسبب الفقر، اما النكبة فقد صنعنا نكبة حقيقية بكل التفاصيل، لقد عايشت تجربة والدي حقا.

كما حاولنا التواصل مع الفنانة القديرة نادرة عمران، إلا أنها ردت بألم : “لم أفهم حتى الآن أن حاتم قد رحل، لا أستطيع الحديث بالموضوع، رحمه الله”، بينما ودعته جولييت عواد بكلمات بسيطة : “مع السلامة يا أمي يا حاتم أبدعت في معظم أعمالك وتركت بصمتك، بتغريبتك أعدت بناء الذكرة الجمعية، وأظهرت مأساة شعب كامل، لن ننساك ولروحك الرحمة والسكون”.

مواقع التواصل كذلك ضجت برحيله، فصاحبت جنازته جنازة إلكترونية، ولا زال ألم الرحيل يصاحب الجميع حتى الآن، فكتب على سبيل الذكر لا الحصر الفنان السوري جمال سليمان : ” صديقي الغالي

اليوم ودعك اهلك و اصدقاؤك و دمشق كلها. دمشق التي كنت تحبها و تحب ان نستذكرها أنا و أنت و نحن في غربتنا. دمشق التي صورتها كا ميرتك في “الفصول الأربعة” و في “عصي الدمع” بحب و حنان. كانت جنازة مهيبة تليق بك و بما أنت و ما كنت.

كانت محطتك الأخيرة في واحدة من اقدم بقع دمشق في مقبرة الباب الصغير بين باب الجابية و السويقة و هي منطقة قضيت فيها طفولتي، و في نفس المقبرة يرقد والدي و والدتي رحمهما الله. مما رأيت في الصور فأنت بجوارهما تماما. سيستأنسان بجيرتك، فهما يحبانك جدا و شاهدوا كل اعمالك بشغف. والدي كان مغرما باعمالك التاريخية، اما والدتي فقد كانت متعلقة بأعمالك المعاصرة بدءا من “الفصول الاربعة” إلى “عصي الدمع” و لم يمهلها الزمن لترى “العراب”، و لكن اكثر ما تعلقت به كان “التغريبة الفلسطينية” و شاهدته مرات و مرات دون كلل و لا ملل و أظن أن لذلك اسبابا كثيرة منها علاقة ابي صالح بوالدته، فقد كنت أنا أيضا بكرها. و عندما عصف الزهايمر بها في اواخر ايامها و من شدة تعلقها بالمسلسل نسيت اسمي و أصبحت تناديني ” أبو صالح”. طبعا كما تعرف لم أكن معها في تلك الأيام حيث أُغلق باب وطني في وجهي. و كانت تنتظر عودتي و تسأل دائما ” متى سيأتي أبو صالح؟” ” هل اتصل أبو صالح؟” و عندما كنت اتصل بها كانت تقول لي ” كيفك يا أبو صالح… أنا اشتقت لك يا أبو صالح”. في آخر يوم لها في دنيانا استيقظت أختي فجرا على صوتها تنادي : ابو صالح… يا أبو صالح… ثم طلبت كأسا من الماء، لكنها لم تنتظر، فقد رحلت قبل ان تشربه و قبل ان تلتقي بي ثانية.

يا أمي يا حبيبتي ها هو مخرج ” التغريبة” بجوارك. للأقدار معانٍ. أحياناً. ” .

إن حاولنا دراسة مسيرة الراحل فسنفهم أن الظروف صنعت فلسفته وسعادته كثيراً وكانت مؤثرا حقيقيا عليه، فهو من أصبح ممثلا بالصدفة، بعد أن كان كاتبا لأحد النصوص فوجد نفسه على المسرح لغياب أحد الممثلين، وهو من وجد نفسه مخرجا صغيرا بالعمر لأعمال عظيمة، حتى أن تجربته باللجوء من الجولان لمخيم اليرموك ساعدته على فهم التغريبة وصياغتها بالطريقة الحقيقية.

كان له ثقافته وفلسفته الواضحة فكان يرفض الأعمال إن لم تكن مرضية لشغفه وضميره، ومن أهم عباراته : ” مسيرة المخرج لا تكون بما قدم من أعمال، بل بما رفض أيضاً”، كما أنه كان يعول على وعي المتلقي وثقافته فالأعمال التلفزيونية تكون للمتعة والتثقيف حسب وصفه، وفهمه بالطريقة الصحيحة يعتمد على المشاهد، كان رجلا استثنائيا استحق رحيله كل ذلك الحزن، وفرض غيابه حالة من الوحدة العربية والشعور المشترك ، ربما لأول مرة منذ عقود.

Related posts

الانتخابات النيابية الأردنية 2020 في ظل جائحة كورونا: بين التفاؤل والإحباط

Admin User

نقص المياه بين الحقوق المائية للأردن وتراجع الموسم المطري

Admin User

السُمنة بين تغيير النمط الغذائي وقلة الحركة

admin user

اترك تعليقا

WP2Social Auto Publish Powered By : XYZScripts.com