منبر البترا – تحقيق: شهد الحمصي وأسماء البسومي – لطالما كانت الصّحافة الاستقصائيّة، ولا تزال، ركيزة أساسيّة في المشهد الإعلامي العام، حيث تُسهم في كشف الحقائق، ومحاسبة السلطة، والتعبير عن صوت المُهمّشين.
الصحافة الاستقصائيّة هي التي تكشف، وتنقب، وتتحقّق، وتُثبت، ومع مرور الوقت، شهدت الصحافة الاستقصائيّة تطورًا كبيرًا، لا سيّما مع ظهور التكنولوجيا الحديثة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتطورات الكبيرة التي يشهدها مجال الذكاء الاصطناعي.
يهدف هذا التحقيق إلى اكتشاف التغيّرات التي طرأت على الصّحافة الاستقصائيّة من خلال مقارنة أدوارها بين الماضي والواقع الحالي.
من الميدان إلى الرقميّة
في الماضي، كانت الصّحافة الاستقصائية تعتمد على الأدوات التقليديّة مثل البحث الميداني والمكتبات، وفي هذه الحقبة، كانت العمليّات الصحفيّة تستغرق وقتًا طويلاً، وغالبًا ما كانت تتطلب التنقل الميدانيّ، وإجراء المقابلات الطويلة المتعمّقة، للوصول إلى المعلومات الدقيقة.
اليوم، أصبحت الأدوات الرقميّة هي السائدة، ممّا جعل الصّحافة أكثر سرعة وكفاءة، حيث يُمكن للصحفي الوصول إلى معلومات من جميع أنحاء العالم بنقرة واحدة. صفاء الرمحي مدرّبة ومشرفة تحقيقات في مؤسّسة أريج (شبكة إعلاميّون عرب من أجل صحافة استقصائيّة)، ومتخصّصة في الإنتاج الإذاعي والوسائط المتعددة، منذ عام 2007، أكّدت أنّ التكنولوجيا “سهّلت الوصول إلى كمّ هائل من البيانات”، إذ تتيح البرامج المتطوّرة لتحليل البيانات، والكشف عن التزييف العميق، والتواصل مع مصادر خارج حدود الوطن. ومع ذلك، فإنّ السرعة والتنافس الشديد يعرّض الصحفيّين لضغوط إضافيّة، ممّا قد يؤثر على جوْدة العمل.
الذكاء الاصطناعي وأدوات البحث
بدأت الصحافة الاستقصائيّة في الأردن تواجه تحديات جديدة مع ظهور الأدوات الرقميّة مثل الذكاء الاصطناعي. الصحفيّة في جريدة الغد منى أبو حمور تُؤكّد أنّ الذكاء الاصطناعي “لا يُقلّل من دور الصحفي بل يسهم في تقليل الجهد في البحث وجمع المعلومات، ويزيد من إمكانيّة وصول الصحفيّ إلى أكبر قدر ممكن من المعلومات حول العالم”.
وأوضحت أنّ الذكاء الاصطناعي أصبح أداة قويّة تساعد الصحفيين في تصفية المعلومات واكتشاف الأنماط المخبّأة التي يصعب ملاحظتها يدويًا. ومع ذلك، يجب على الصحفيّين توخّي الحذر في استخدام هذه الأدوات، كي لا يتعرّضوا للتضليل بسبب الاستخدام المفرط للتقنيات غير الموثوقة.
من جهة أخرى، يرى الكاتب الصحفي ماجد توبة رئيس قسم مندوبي الشؤون المحليّة في “الغد” أنّ التقنيات الرقمية قد ساعدت في توفير معلومات بسرعة أكبر، مشيرًا إلى أن الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى علم ومعرفة وطول نفس وإيمان حقيقي بالرسالة التي يحملها الصحفي. وأضاف أن التحدّي الرئيس هو “التزوير والأخبار الكاذبة” التي قد تعيق عملية التحقق من المعلومات. فحتّى وإن أصبحت التكنولوجيا متاحة، إلا أن الصحفي لا يزال بحاجة إلى الموازنة بين السرعة والدقة.
تأثير وسائل التواصل الاجتماعي
أما بالنسبة لتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اتفق الجميع على أن هذه الوسائل تُسهم في نشر الأخبار بسرعة أكبر، ولكنها في نفس الوقت تجعل من الصعب التأكد من صحة المعلومات. منى أبو حمور قالت: “إن التنافس اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي يؤثر على السبق الصحفي وسرعة انتشار الخبر”، مشيرة إلى أن الصحافة الاستقصائية لا تقوم على النشر السريع بل على “العمق والتحقق، ما يتطلب وقتًا طويلًا وأحيانًا سنوات”.
وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت أيضًا في نشر التحقيقات الصحفية، ممّا أتاح للصحفيين الوصول إلى جمهور أكبر، لكن في ذات الوقت، تشكلت بيئة يتسارع فيها نشر الأخبار، مما قد يعرض الصحفيين للضغوط ويؤدي إلى نشر أخبار غير دقيقة. يحيى شقير الصحفي والخبير القانوني شدد على ضرورة الحفاظ على “المهنية” في الصحافة الاستقصائية، معتبراً أنّ “الجرأة” ليست كافية لوصف العمل الصحفي، بل يجب أن يكون “جيدًا” سواء في الإعلام التقليدي أو الحديث. وأضاف أنّ الصحافة في الماضي كانت تتمتع بـ “مهنيّة أكبر” بسبب القيود التي كانت مفروضة على وسائل الإعلام.
أدوات الصحافة الاستقصائيّة الحديثة مقابل القديمة
تطرقت صفاء الرمحي إلى التحوّلات التي شهدتها الأدوات المستخدمة في الصحافة الاستقصائية، حيث لم تعد الأدوات التقليدية مثل الطابعات وأجهزة التسجيل القديمة ذات أهمية كبيرة. “اليوم، أصبح الهاتف المحمول هو الأداة الأساسية للصحفي، وأصبحت المكتبات التقليدية قديمة الطراز مقارنةً بالأرشيفات الإلكترونية وبرامج تحليل البيانات المتطورة”.
ماجد توبة تحدث عن الفروق بين الصحافة الاستقصائيّة في التسعينيّات واليوم، قائلاً: “هنالك فرق كبير، وتطوّر العلم تطور ونظريّاته، وأصبح هناك أساليب وأدلّة لكيفية عمل التحقيق الاستقصائي”. وتابع أنّ الصحافة الرقمية ساعدت في هذا التطور بشكل كبير، وأنّ الصحافة التقليديّة أصبحت تحاول منافسة وسائل الإعلام الاجتماعية عن طريق التركيز على التحقيقات الاستقصائية. وأوضح أن الصحفي اليوم يمتلك القدرة على الوصول إلى مصادر متنوعة بشكل أسرع بفضل الإنترنت، لكنه في الوقت نفسه يواجه تحديات مثل التضليل وصعوبة التحقق.
صفاء الرمحي، أكدت أنّ التكنولوجيا قد “سهلت عملية البحث والتحقق من المعلومات”، وأصبح من الممكن الوصول إلى “مصادر معلومات خارج حدود الوطن”. لكنها أشارت إلى أن “التزايد في حجم البيانات” أصبح يمثل تحديًا للصحفيين في تصفية المعلومات الصحيحة من المضللة، خاصة في ظل وجود خوارزميات تضخم المحتوى المضلل على الإنترنت.
القضايا التي تمّ التحقيق فيها
صفاء الرمحي أضافت أنّ الصحافة الاستقصائية شهدت تحوّلًا في المواضيع التي يتمّ التحقيق فيها. في الماضي، كان التركيز ينصب على “قضايا الفساد السياسي والمالي”، أمّا اليوم فقد شملت الصحافة الاستقصائيّة قضايا “انتهاكات حقوق الإنسان”، “القصص العابرة للحدود”، وقضايا “البيئة والتغير المناخي” التي أصبحت من أولويّات الصحافة الاستقصائية. يشير ماجد توبة إلى أنّ الصحافة الاستقصائيّة أصبحت اليوم تلعب دورًا أكبر في معالجة القضايا التي تهمّ المجتمع العالمي بأسره، وليس فقط المحلّي.
من يمكنه أن يكون صحفيًا استقصائيًا؟
حول هذه النقطة، تعتقد منى أبو حمور أنّ الصحافة الاستقصائيّة ليست مجالًا مفتوحًا للجميع. “الصحافة الاستقصائية تحتاج إلى صحفيين محترفين يتمتعون بمهارات متقدمة في البحث والتحليل، ولديهم أخلاقيات مهنية صارمة”. بينما يمكن لأي شخص مهتم بالتحقيقات أن يسهم في اكتشاف الحقائق، إلا أن الصحفي المحترف يظل الأكثر قدرة على التعامل مع القضايا المعقدة والوصول إلى المصادر الحساسة. تعددت الآراء في هذا المحور حيث أكد البعض على أن أي شخص الآن لديه الشغف والقدرة على البحث والتحليل والالتزام بالدقة والموضوعية يمكن أن يكون صحفياً استقصائيا”.
الصحافة الاستقصائية في المستقبل.. هل نحن مستعدّون؟
مع تقدم وسائل الإعلام الرقمية وظهور الأدوات التقنية الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، أصبحت الصحافة الاستقصائية أكثر قدرة على الوصول إلى المعلومات وتحليلها. لكن هذا التقدم ليس دون تحديات. فقد أصبح الصحفيون، وخاصة الصحفيون الاستقصائيون، أكثر عرضة للمراقبة والاختراق. كما أن المنافسة الشديدة على منصات التواصل الاجتماعي قد تؤثر سلبًا على الدقة والعمق في العمل الصحفي.
منى أبو حمور أكدت أن “التنافس اليوم في شبكات التواصل الاجتماعي يؤثر على السبق الصحفي وسرعة انتشار الخبر”، مشيرة إلى أن الصحافة الاستقصائية لا تعتمد على السرعة بل على “العمق والتحقق”. وهنا يبرز دور الصحافة الاستقصائية في التصدي للأخبار المضللة ومواكبة العصر الرقمي دون التضحية بجودة المعلومة.
أوضح طلاب كلية الإعلام في جامعة البترا أنّ منصات التواصل الاجتماعي أصبحت أداة رئيسة لنشر التحقيقات، حيث قال أحدهم: “من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، يمكن نشر التحقيقات بسرعة للجمهور الأكبر”. وأشار البعض إلى المخاوف من التضليل والمغالطات في الأخبار المنشورة على هذه المنصّات. تظل الصحافة الاستقصائية جزءًا أساسيًا من الإعلام، لكن تطور الأدوات الرقمية قد غيّر من أساليب العمل والنشر، ما بين فوائد الوصول السريع للمعلومات وتحديات دقة الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي.
إنّ الصحافة الاستقصائيّة في الأردن، بين الماضي والحاضر، شهدت تحوّلًا جذريًا بفعل التكنولوجيا الحديثة. ففي الوقت الذي كان فيه الصحفي يعتمد على الأدوات التقليديّة ويواجه تحدّيات كبيرة في جمع المعلومات، أصبحت الأدوات الرقميّة اليوم توفر له إمكانيّات غير مسبوقة للوصول إلى البيانات والمصادر بسرعة وكفاءة. مع ذلك، فإنّ هذا التقدّم التكنولوجي يحمل في طيّاته تحدّيات جديدة تتطلب من الصحفيّين الاستقصائيّين الجمع بين مهارات البحث التقليدي والقدرة على التعامل مع التقنيات الحديثة.
وفي الختام، تبقى الصحافة الاستقصائية قوّة لا غنى عنها في تعزيز الشفافيّة ومكافحة الفساد، ولها دور كبير في تعزيز الديمقراطية وحماية المجتمع من التلاعب بالمعلومات. ومهما تطوّرت الأدوات التكنولوجية، تبقى مهارات الصحفيّين وقدرتهم على تحقيق التوازن بين السرعة والدقّة هي المفتاح للمحافظة على رسالتها النبيلة.