بقلم: إبراهيم السيوف
الّلغة العربيّة ليست مجرد حروف تُلفظ وكلمات تُكتَب، بل هي روح مُتجذرة في أعماق التاريخ، ونبض حيّ يَزهو بين جنبات الأمّة. هي لغة الجّلال والكمال، صاغت بها الحضارة الإنسانيّة مجدها، وكتبت بها الأقلام دُرَر الحكمة والبلاغة، وبلغت بها قلوب المؤمنين مقام الإيمان العميق حين نزل بها كلام الله سُبحانه وَتَعالى.
وُلِدَت في قلب الصّحراء حيث سُقيت من نبع الفطرة الصافي حتى غدت أداة الفن والبيان. قبل نزول القرآن الكريم كانت لُغة الشّعراء التي تفجّرت بها عبقريّتهم، وحين نزل الوحي أُضفيت عليها هالة القَداسَة فارتقت إلى مَصافِ الإعجاز.
كتب المستشرق الألماني “يوهان فك” قائلاً: “الّلغة العربيّة من أعجب لغات العالم، فإنها لا تزال تحتفظ بخصائصها كاملة رغم تقلّبات الزمن.” وهذه الشهادة تؤكّد صمودها أمام تحدّيات التّاريخ. وعلى أيدي العلماء والأدباء في العصور الإسلاميّة صارت العربية لغة الفلسفة، والطبّ، والفَلَك، وعلوم الطبيعة، إذ احتوت آفاق العلم ووسعت آمال الإنسانيّة.
الّلغة العربيّة ليست لغة تُسمع فحسب بل تُحسّ وتُبصَر. كلّ لفظ فيها نغمة، وكل تركيب فيها لوحة. هي لُغة الإيجاز البليغ الذي يختصر الكون في حرف، ولغة التفصيل الذي يكشف أدق الخفايا. قال الجّاحظ: “الكلام العربيّ هو الجمال بعينه نثراً كان أو شعراً؛ لأنه كلام ينطق بعظمة العقل.”
في قول لبيد بن ربيعة:
وما المالُ والأهلونَ إلّا وديعةٌ
ولا بدَّ يومًا أن تُردَّ الودائعُ
يتجلّى عمق الفكرة وسُموّ التعبير إذ اختُزلت فلسفة الحياة والموت في بيت من الشعر كأنه وحي يلامس الروح.
ولكن هذا الجمال يُواجِه اليوم رياح التحدّيات حيث تتكالب عليها عوامل التهميش والإهمال. غزت الّلغات الأجنبيّة عقول الشباب، وتراجعت الفصحى في منابر الإعلام، وأُهملت في المدارس والجامعات حتى كادت تضيع بين أيدي أبنائها. كتب طه حسين: “الّلغة قوام الأمّة وروحها، فإن ضعفت الّلغة ضعفت الأمّة.” وكأنما أراد أن يُلفت أنظارنا إلى خطر داهم يهدد هُويّتنا.
إنّ الحفاظ على الّلغة العربيّة ليس ترفاً فكرياً أو واجباً أدبيّاً فقط بل هو معركة وجود وهُويّة. على عاتقنا تقع أمانة نقل هذا المجد إلى الأجيال القادمة، وغرس الفصحى في نفوس أبنائنا، وتعزيز حضورها في حياتنا العلميّة والثقافيّة. قال أحد الشعراء:
إذا ضاقتِ الألفاظُ عن وصف عِزّها
فما ضاقَ عنها القلبُ حُبًّا وافتخارَا
فلنجعل الّلغة العربيّة عنواناً لفخرنا، وراية لنضالِنا، وصوتاً يعيد إلينا مجد أمُّتنا. إنّها ليست مِنَ الماضي فَتُرثى، بل مستقبلٌ جديرٌ بِأنْ يزهو.