بقلم :الاستاذ الدكتور ناجي معلا
ان افتقار قطاع واسع من الشباب الى القاعدة المعرفية والمنهجية العقائدية الراسخة ، وعدم توفر المعايير التي تمكنهم من التحليل والمقارنة وتبين مدى صحة ودقة ما يضخ اليهم من الآراء والأفكار الإجتماعية والدينية والفتاوى واستنادها الى الأصول المعرفية الصحيحة وقواعد الفقه الشرعي القوبم التي تمكنهم من التمييز بين القوي الصحيح والضعيف المغلوط من تلك الأفكار والاراء يجعلهم عرضة لأية محاولة تستهدف تضليلهم فكريا وغسل أدمغتهم . كما يساعد اية محاولة لاختراق منظومتهم الادراكية على أن يكونوا صيدا فكريا سمينا لتلك المحاولة . واذا أخذنا هذا المستوى من التحليل بعين الاعتبار من جانب الشخص المتلقي ، فإن التحليل من جانب المرسل (صاحب المحاولة التضليلية ) له من الأهمية ما يبرر الاشارة اليه . فصاحب هذه المحاولة التضليلية غالبا ما يعتمد في اسلوبه على مستوى من المنطق الاغوائي القادر على التغلغل الى المنظومة الضعيفة للتفكير لدى الشاب المتلقي وينجح بسهولة في تحقيق محاولته.
وهكذا ، فان هذا الوضع الاتصالي غير المتكافئ الذي يدور فيه الحواربين طرفين أحدهما ، شاب متلقي ذو دائرة معرفية ضيقة وافتقار الى المعايير التي تمكنه من تمييز الغث من السمين ، وطرف آخر (صاحب المحاولة التضليلية) لا يتوفر لديه سوى قدر بسيط من المنطق التضليلي الخاطئ ، وتكون النتيجة قدرة أكبر يتفوق بها الطرف الأخير من تحقيق اختراق سريع لذهن هذا الشاب المتلقي لأنه لا يملك القاعدة المعرفية التي تجعله قادرا على مناقشة مضمون الحجج والأفكار التضليلية التي وصلت اليه وقرعها بما يمكن ان يدحضها.وبالتالي فانه يقبلها ” ففاقد الشيئ لا يعطيه .”
والحقيقة ان هذا الطرح يصبح من الخطورة بمكان عندما يكون صاحب المحاولة التضليلية مدعيا معرفته بالامور الشرعية وهو لا يملك من المؤهلات الفكرية واصول الفقه والعلم الشرعي الكافي المستند الى المصادر الاساسية للتشريع ، والتي اشار اليها الرسول صلى الله عليه وسلم في أثره الشريف ” تركت فيكم ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ، كتاب الله وسنتي ” صدق رسولنا الكريم . بل ان صاحب تلك المحاولة قد لا يكون لديه جزءا من هذا التأهيل فيتفوه بدون معرفة ويفتي بغير علم . واذا نجح في في تحقيقهدفه فان هذا النجاح لا يعتمد على مدى سعة دائرته المعرفية أوقدرته على الاقناع ، وانما يعتمد على القجوة المعرفية لدى المتلقي وعدم قدرته على المحاججة من ناحية ، وافتقاره الى المنطق الاقناعي القادر على التغلب على المنطق التضليلي المقابل ومناهضته . وهكذا ، لا يكون امامه سوى قبول تلك الحجة التضليلية بجوهرها المضلل وغلافها الوردي المقنع .
ومما يزيد من عمق المشكلة هو التعددية الواسعة في مصادر الضخ الفكري والاعلامي الذي ينفذ من خلال أقوى وسائل الاتصال من حيث كونية وشمولية تغطيتها الجغرافية من ناحية ، ودرجة تأثيرها على أذهان الافراد وخاصة فئة الشباب من ناحية أخرى . فقنوات التلفازالتي تبث برامجها على مدار الساعة والتي يتبنىكل منها تيارا فكريا او عقائديا معينا بعضه صحيح والبعض الاخريشوبه التشويش والتحريف والكثير منه يقوم على التضليل المغلوط الذي ما أنزل الله به من سلطان .ان تأثير مثل هذه المصادر يزداد قوة في أوقات مرغوبة من قبل الجمهور المتلقي ولا يكون هناك سواها فتفرض نفسها وتبث ما لديها. يضاف الى ذلك ، فان مصادر البث تلك قد تذهب الى أكثر من ذلك عندما تستطيع توظيف بعض نجوم القكر والفن والرياضة والموسيقى مستغلة ما لدى مثل هؤلاء النجوم من الكاريزما الكافية لاستقطاب الأذهان واستمالة فضولية التعرف والاطلاع على الاشياء والاستعداد بالقيام بهذه الأدوار . وفي هذا المجال فان شبكة الانترنت تمثل عالما افتراضيا غير محدود في المدى ودرجة التأثير وأمام هذا الاعلام المتنوع الذي يستند الى فلسفات مختلفة ومرجعيات منهجية وفكرية ذات مصادر متعددة لا تحظى بالا جماع المطلوب فان الأمر يستوجب التوقف والتأمل في كل ما يصدر عنها والتثبت والتتمحيص لكل ما نشاهد ونسمع . والحقيقة اننا هنا لا نقصد فقط الطروحات والحوارت التي تكون ضمن سياقات دينية ، بل ان ذلك يمتد ال كافة اشكال الاتصال بكل ما تنطوي عليه من اساليب الحوار الاقناعي الفكري والادلجة السياسية . والسؤال المحوري الذي يطرح نفسه هو : ما هو الحل ؟ وكيف يمكن أن نحمي شبابنا حتى لا يكونوا صيدا سمينا للفكر التضليلي ؟
ان الحل سهل وبسيط اذا أردنا أن نواجه ونتصدى للهجمة التضليلية التي تستهدف شبابنا في أفكارهم وادراكاتهم ونظامهم الفكري والقيمي . ان الحل يكمن في القول المأثور ” وداوني بالتي كانت هي الداء .” ان المواجهة الحقيقية لهذا التيار الفكري والايديولوجي المعتمد على منطلقات بعيدة وغريبة عن جوهر عقيدتنا ونظامنا الثقافي والقيمي ، بل وموروثنا الحضاري الاصيل الذي تناقلته الاجيال ، جيل وراء جيل . وحافظت علىه وحمته من العبث والتشويه . تكون بمثابة مرجعية ذات منظومة فكرية منهجية واضحة ومحددة قادرة على ضبط ايقاعات التفكير والاجتهاد وتحقيق المناعة الفكرية الكافية لتحصين شبابنا ضد كل ما يمكن ان يتعرض له من محاولات التضليل الفكري والسلوكي . ان تكوين مثل هذه المرجعية يحتاج الى تبني استراتيجية ان يتعرض له من محاولات التضليل الفكري والسلوكي . ان تكوين مثل هذه المرجعية يحتاج الى تبني استراتيجية تربوية تعليمية وتثقيفية شاملة ومتكاملة تستهدف تكوين القاعدة المعرفية التي تستند اليها هذه المرجعية . ان تنفيذ هذه الاستراتيجية يتطلب تصميم برامج عمل تنفيذية تحاك بطريقة علمية ومنهجية صحيحة تستهدف تحقيق ما يلي :
- تكوين مخزون معرفي ممنهج عن أساسيات نظامنا القيمي والعقائدي الصحيحة . ويجب ان تمتد روافد هذا المخزون الى ينابيع العملية التربوية والتعليمية التي تتضمنها مناهج التدريس في مراحل التعليم الاساسية والتي يجب أن تنمو مع التطور في شخصية الطالب وتكوينه النفسي والسلوكي .
- التوسع في اقامة مشاريع البنية الثقافية التحتية المتمثلة في المكتبات العامة في مختلف الأحياء ورصد الموازنات الكافية لتوفير أحدث الكتب الثقافية المنتقاة والمجلات المتخصصة في العلوم النظرية والتطبيقية المختلفة وتشجيع الشباب من طلاب االمدارس والجامعات على الاقبال على هذه المجلات من خلال تكليفهم باجراء أبحاث مكتبية تعتمد على مراجع ومصادر لا توجد الا في تلك المكتبات فقط وذلك لتعويدهم على التردد عليها والتفاعل مع فعالياتها .
- تدعيم المناهج المدرسية بالطرق والاساليب التي تشجع الطلاب على القراءة اللامنهجية التي تخرج بأذهانهم وأفكارهم من حيز التفكير المنهجي المحدود الى افاق التفكير والتأمل . ان مناهج التعليم الأساسي في المدارس الامريكية والبريطانية تقتضي من الطالب أن يقرأ من الكتب والقصص ما لا يقل عن عدد محدد ( ربما 30 ) معظمها قصص وروايات قصيرة ولكنها هادفة وملهمة ،وتحسب قراءة هذه الكتب كانجاز للطالب يشار اليه في الشهادة المدرسية اخر العام الدراسي . وغالبا ما يكون مجالا لتميز طالب على اخر.
- تعزيزالمناهج المدرسية في المرحلة الثانوية ( السابقة لدخول الجامعة ) بمواد جديدة تركز على الحوار ومداخله وأصوله. عندما كنا في المرحلة الثانوية في العقد السادس من القرن العشرين كنا ندرس الفلسفة وعلم المنطق، وفي العقد الثاني من الألفية الثانية لا نراها في مناهج الدراسة الثانوية الحالية .
فأين ذهبت ؟ ولماذا قمنا بالغاءها ؟ وما هي أسباب الغاءها ؟ فاذا كان السبب هو صعوبتها على عقول الطلاب في الوقت الحالي فكيف كنا نستوعبها ونفهمها في السابق ؟ وبمستوى التفكير البسيط انذاك؟ والمفترض ان تكون أذهان وعقول أبناءنا الطلاب أكثر تفتحا مما لدينا نتيجة ما قدمته مخرجات التكنولوجيا الحديثة .
ان التطور في العقل البشري يجب أن يكون أقدر على فهم واستيعاب الاصعب وليس قبول الاسهل ؟ اليس في ذلك منطقا معكوسا في فهم التطور الذهني البشري .ان تعود الفرد على القراءة من شأنه توسيع معارفه وتعميق ادراكاته الأمر الذي يعزز مهاراته وقدراته على التحليل والمقارنة ويقود بالتالي الى تدعيم منطقه في معالجة وتقييم ما يتلقاه من الافكار المطروحة عليه . ان هذا المستوى المعرفي المتقدم لدى الفرد يؤدي الى تحصين الفرد فكريا وتكوين مضادا ذهنيا حيويا في مواجهة اية أفكار تضليلية مناقية لمنطقه الخاص به. ان الجهل وانخفاض المستوى الثقافي للأقراد يجعل من أذهانهم مجالات خصبة لاختراق أية أفكار مناوئة.
- تنظيم البرامج وورش العمل الموجهة لتدريب وتأهيل الأمهات للقيام بالتثقيف التربوي الموجه لتكوين عادة المطالعة والقراءة . ان برامج الامومة والطفولة التي ترعاها وتمولها وزارتي الصحة والتنمية الاجتماعية يجب ان تتجاوز في أهدافها مجرد تطوير مهارات الام في تربية وتغذية أطفالها لتشمل المهارات اللازمة لتعويد هؤلاء الأطفال على القراءة . لماذا ترضى الامهات ان يصبحن مدرسات اخريات يعطين أطفالهن دروسا اضافية بعد عودتهم من المدارس ولا تحاول ان تسهم هؤلاء الأمهات في بناء عادة امن أرقى العادات السلوكية لدى اطفالهن (المطالعة ) ؟
- تفعيل وترويج نموذج الاستاذ القدوة في الجامعات. ان لأستلذ الجامعة دورا هاما يمكنه القيام به في تحقيق هذا النموذج . ان مثل هذا النموذج العلمي والثقافي والسلوكي يمكن أن يسهم بشكل فعال في تنويروتثقيف نشأنا العزيز من شبابنا . بل ان أهميته ربما فاقت الدور الذي تلعبه بعض وسائل التأثير الاجتماعي في تشكيل الشخصية الشبابية الرائدة . ان بناء هذه الشخصية هي مسؤولية ادبية وأخلاقية تقع على عاتق أساتذة الجامعات ويجب أن يتحملونها من أجل تحقيق حمايتهم وتحصينهم لمواجهة ما يمكن أن يتعرضون له من محاولات التضليل الفكري والمنهجي .
أخيرا ، فاننا نود أن نؤكد علي حقيقة أن البناء الفكري الصحيح والتشكيل المنهجي القويم يعتبر سلاحا ربما فاق أثره ما يمكن أن يحدثه السلاح الحقيقي في مواجهة التيارات التضليلية التي تستهدف شبابنا والتصدي لها.