منبر البترا-بقلم أ.د. ناجي معلاّ
بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عاماً قضيتها في سلك التعليم الجامعي الذي لي الشرف في الانتماء إليه، والتعبير عن همومه وطموحاته، فإنني أستطيع تقديم مقاربة واقعية نابعة من تجربتي الحقيقية خلال تلك الفترة لحالة التعليم العربي, وهل تمثل هذه الحالة وضعاً مشكلاتياً أم أنها تعكس أزمة ؟ وإذا كانت حالة أزمة حقيقية : فهل تكمن في قدرة المؤسسات التعليمية على تقديم خدمة التعليم ومنح شهادة طبقا لمعايير الجودة الدولية ؟ أم في قدرة النظام التعليمي العربي على بناء الشخصية العلمية والمهنية القادرة على إستيعاب متطلبات العصر واستحقاقات التطور؟ هذا ما سنحاول تسليط الضوء عليه من خلال هذه المقالة. وصولاً إلى تصور تطوري معاصر ومتكامل نستطيع من خلاله وبواسطته تشخيص هذه الحالة ومحاولة وضع الحلول المناسبة للخروج منها. إن المقاربة المقدمة هنا تقوم على أساس نظرة نظمية سينيرجية للعملية التعليمية قابلة للنقاش والحوار باعتبار أن الخلاصات التي يمكن الوصول إليها مدخلات أساسية للتطوير. إن هذه النظرة من شأنها أن تسهم في توطيد وتوكيد الجودة الشاملة للعملية التعليمية في مجملها. وضمن هذا الإطار فإننا سنلقي الضوء على أهم هذه المدخلات على النحو التالي:
أولاً: البيئة المادية للتعليم:
وتتمثل في البنية التحتية والمباني والأجهزة والتجهيزات والمعامل والمكتبات وكافة التسهيلات الخدمية المعدة للغرض التعليمي. إن بيئة التعليم العربي في مجملها لا توفر المناخ العلمي والبحثي الكافي والمناسب لأطراف العملية التعليمية (الأستاذ والطالب). وأنا لا أتحدث عن ذلك بالمطلق، لأن هناك الكثير من المؤسسات التعليمية استطاعت توفير ذلك. فإذا توفرت المباني تكون المقاعد بحاجة إلى صيانة، وإذا توفرت المكاتب للأساتذة فإنها تكون مشتركة في معظم الحالات مما يضعف من الخصوصية الأكاديمية للأستاذ والرغبة في التفكير والبحث. فكيف يكون له ذلك بحضور الأقران شركاء المكتب وحاشية كل منهم من الطلاب معه، ولكل نمطه الاجتماعي في إدارة الحوار والحديث الممنهج أحياناً، والخارج عن ذلك أحياناً أخرى. هل توفرت للأستاذ المراجع العلمية والدوريات الحديثة التي تقدم له أحدث ما توصل إليه العلم من نماذج ومفاهيم علمية لتكون نقطة انطلاق لأبحاثه ؟ وحتى لو توفرت الدوريات فهل هي حديثة ؟ إننا نرى ذلك عند قراءتنا للبحوث المقدمة للنشر وفي مناقشاتنا للرسائل العلمية حيث نجد المراجع قديمة ومضى عليها عقدان من الزمان أحياناً. لماذا ينجز الأستاذ بحثاً خلال شهر أو شهرين عندما يكون في إجازة تفرغ يقضيها في إحدى الجامعات الأجنبية ويحتاج إلى سنوات عندما يقوم بذلك في جامعته ؟ أما عن المعامل والمختبرات فالحديث عنها شيّق. فالأجهزة موجودة والمواد اللازمة لإجراء التجربة غير متوفرة. أجهزة الحاسوب موجودة ولكنها بحاجة إلى صيانة. الحزمة الإحصائية المستخدمة في التحليل موجودة ولكنها غير حديثة. المعمل الذي ستجري فيه التجربة مغلق لأن المشرف عليه في إجازة مرضية ولا بديل لذلك. قاعات التدريس واسعة ولكنها غير كافية لاستيعاب طاولة وكرسي للأستاذ. الألواح الصفية منصوبة على الحيطان وأقلام الكتابة عليها غير موجودة. الألواح الصفية التقليدية التي أكل الدهر عليها وشرب لا تزال موجودة والكتابة عليها لا زالت بالطباشير. التدريس المسائي يتم في أوضاع لا تكون فيها المقاصف مفتوحة. إنني في سرد تلك الحكايات لست متشاءماً لأنها تروي قصة كل أستاذ. فهل وفرت مؤسساتنا التعليمية البيئة المناسبة للأستاذ والطالب حتى تكون حاضنات للبحوث العلمية والتطوير؟
ثانياً: عضوهيئة التدريس
يمثل عضوهيئة التدريس تراكماً معرفياً وثقافياً وحضارياً يحمل في ثناياه مخزوناً من القيم العلمية والأخلاقية التي تشكل في مجموعها نموذجاً يحتذى ومنهلاً للطلاب يكتسبون منه. وفي هذا المقام أود التركيز على الدور الحيوي والمسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتق عضوهيئة التدريس باعتباره المركز الذي تتمحور حوله العملية التعليمية والناقل الأمين لمحتواها إلى أذهان وعقول الأجيال. وأستشهد على ذلك بالقول “كاد المعلم أن يكون رسولا”. إن أهم ما ينقله عضوهيئة التدريس ”الأستاذ المعلم “ هو “الأنا القيميَّة التي يحملها ” والتي تشكل رافداً أساسياً للدعم النفسي والمعنوي والتعزيزي لشخصية الطالب. إن مفهوم الأنا الأستاذية متجذر في التكوين النفسي والاجتماعي والعلمي والسلوكي للأستاذ. فهو تلميذ بيئته الاجتماعية والثقافية والمعبّر عن معتقداتها وقيمها. فما هي الأنا الأستاذية؟ إنها نتاج لدافعية إنجاز لا حدود لها. وقوة حفز متجددة على تأكيد الذات والتميز. إنها محصلة الإرادة والرغبة في التقدم والتحصيل. إنها الجد والاجتهاد. إنها التضحية بساعات الحاضر لضمان سنوات المستقبل. إنها مجموعة من القيم التي حاول أن يغرسها الرسل في أتباعهم حيث قدموا لهم النموذج الحياتي الصحيح وضربوا لهم في ذلك القدوة الحسنة. وإذا كنت مبالغاً في توصيف وتشخيص هذه الأنا لمحاولتي الوصول بها إلى مستوى ما وصفها به أمير الشعراء شوقي عندما اعتبر المعلم رسولاً. فإنني أردت من ذلك أن أقدم المحتوى على اللفظ وأبرز مفهوم الرسالة التعليمية ومسؤولية الأستاذ في نقلها. وإذا كنت أمثل جيلاً كان الأستاذ فيه أقرب إلى ” أناه ” فإنني لا أتفق بالضرورة مع بعض الأساليب التربوية التي كانت تقوم على منطق الترهيب. في إطار هذه النظرة، يصبح الأستاذ المعلم نموذجاً للطالب وتعبيراً عن كل ما تتطلع إليه الأمة وما تصبو إليه الأجيال من مستقبل زاهر .
وإذا كان على الأستاذ أن يؤكد هذه “الأنا” وينقل مضمونها القيمي والأخلاقي والعلمي لطلابه فإن على الأستاذ القيام بدور حيوي في نقل هذا التراكم المعرفي والثقافي المخزون في ” ذاكرة أناه ” وليكون هذا مدخلاً أساسياً في عملية تشكيل وتكوين شخصية الطالب. وهكذا، أستطيع القول أن الأستاذ هو محور العملية التعليمية وأساس إصلاح النظام التعليمي العربي. ولكن السؤال الهام هنا هو: ماذا قدمنا لهذا الأستاذ ليؤكد مفهوم هذه الأنا، ويحافظ عليها، وينقل منظومة قيمها إلى الأجيال؟ انالاجابة على هذا السؤال معروفا لدى صانعي السياسة التعليمية فجلهم اساتذة ويدركون عوامل الحفز الأكاديمي القادرة على التمكين وليكون دافعا للعطاء بسخاء .
ثالثا: الكتاب والخطة الدراسية
إن الكتاب هو الوعاء الفكري الذي يمثل المستوى المقبول من المعرفة العلمية والمهنية الذي يعتمد عليه الطالب. فهو مرجع المادة العلمية المقررة في المساق العلمي. ونظرة فاحصة ومسؤولة إلى محتوى هذا الكتاب تقودنا إلى مجموعة من الأسئلة حول الكم المعرفي العلمي الصحيح الموجود فيه. فهل هذا الكم كافٍ؟ هل تم تقييم هذا الكم والمادة التي يحتويها والمنهج المتبع في التأليف والأمانة العلمية المتبعة في إعداده؟ هل اعتمد الناشر على معيار أو مجموعة من المعايير التي تجعل الكتاب مؤهلاً لاعتماده كمرجع للمساق؟ إن طرحي لهذه الأسئلة لا يجب أن يفهم على محمل التشكيك فيما تغص به رفوف المكتبات ومراكز توزيع الكتب من المراجع. إن تأليف الكتب ونشرها يعتبران من حقوق الملكية الفكرية والأدبية التي كفلتها القوانين والأعراف الدولية للمؤلف والناشر. وليس لي على ذلك اعتراض، ولكن مدى اعتبار هذه الكتب والمراجع مناسبة لمستوى المعرفة العلمية الواجب نقلها إلى الطالب في مساق معين هو محل الأهتمام، وهل هذا المستوى يضاهي محتوى المساق المثيل له في الجامعات الأجنبية ذات السمعة المرموقة ؟ حتى يكون الطالب الخريج من جامعاتنا قادراً على التنافس مع أقران التخصص المثيل خريجي الجامعات الأجنبية المرموقة. إن تقرير كل ذلك يجب أن يكون من قبل جهة اعتماد مسؤولة عن جودة التعليم العربي. إنني لا أطالب في مقاربتي هذه بوضع قيد على حرية وحركة التأليف فأنا ابن هذه الحركة ومعايش لها وأحد المشجعين لها، ولكنني أؤكد على مبدأ التقييم العلمي لمحتواها ومضمونها ليكون مناسباً لمحتوى الخطط المنهجية التدريسية للمساقات المدروسة وليحافظ العلم على هويته.
وحتى لو كان محتوى الكتاب مناسباً للخطة المنهجية التدريسية فإن هناك سؤالاً هاماً يطرح نفسه وهو: هل تم وضع الكتاب استجابة لمتطلبات تلك الخطة وخدمة لمستلزماتها أم أن هذه الخطة قد تم وضعها لتخدم الكتاب؟ سؤال هام. ولكن الإجابة عليه يجب أن تكون مسؤولة أيضاً. وإذا كان الجواب صحيحاً ومقبولاً فإن أسئلة أخرى تتداعى على مخيلتي لأقول: هل محتوى الخطط التدريسية نفسها تفي بمتطلبات العصر من التخصصات العلمية والمهن التي نعد الطالب لها في الجامعة؟ هل قمنا بإجراء الدراسات الكافية للتأكد من ذلك ؟ وبالنسبة لكافة التخصصات العلمية والمهنية التي تطرحها الجامعات العربية ؟ هل ما تقدمه جامعة معينة من تخصصات فريد وليس له مثيل في الجامعات الأخرى داخل نفس الدولة ؟ هل التخصص المطروح في إحدى الجامعات يكرر نفسه في جامعة أخرى ؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة لها تداعيات هامة حول مدى جدوى التعددية في الجامعات، ودرجة التنافسية فيما بينها ومدى قدرتها على تقديم عناصر الجذب الكافية لاستمالة الطلب على العلم ؟
جانب آخر من جوانب المحتوى العلمي للكتاب الجامعي المقرر وهو مدى إثارة هذا المحتوى لرغبة القراءة ومواصلة التحصيل وسد الفجوة المعرفية. كنت أتصفح كتاباً معروضاً في إحدى المكتبات، وبعد قراءتي لحوالي عشرين صفحة لم أستطع فهم محتواها ولم أخرج بخلاصة معينة يمكن أن تختزنها الذاكرة. وعندها أشفقت على الطالب في جامعاتنا. نقدم له المادة العلمية بأسلوب ركيك مفكك لا يعتمد على التسلسل المنطقي في فقراته، ونأتي له بأسئلة في الامتحان نطلب منه فيها تقديم إجابات علمية منظمة نقيمه بعد ذلك على أساسها. هل هذا منطق أكاديمي صحيح ؟ سؤال آخر، هل انطوى محتوى الخطة التدريسية على وسائل الحفز القادرة على استمالة الرغبة في التلقي والتشوّق للقراءة ؟ هل حركت محتويات الخطة مشاعر وعشق الاحتراف المهني التي نحاول إيجادها لدى الطالب ؟ إن عشق الطالب للمعرفة وتعبيره الصادق عنها وشغفه الحقيقي لمزاولة المهنة التي يكون قد اكتسب قواعدها السلوكية في الجامعة، لها انعكاساتها على درجة الاحتراف في الأداء المهني؟ فمثلاً هل نقلنا إلى طالب التسويق فن وقواعد البيع والتسويق الناجح ؟ هل قدمنا له نموذج الأستاذ العارف بتخصصه والممارس الناجح للمهنة ؟ لقد خرجنا المحاسبين فهل علمناهم قواعد وأخلاقيات مهنة المحاسبة ؟ لقد خرجنا الأطباء العارفين بمهنة الطب فهل علمناهم الكيفية والخلق وسلوكيات التعامل مع المرضى؟ لقد حلفوا يمين أبقراط في القيام بالمهنة على أكمل وجه، فهل أسلوب بعض الأطباء في التعامل مع مرضاهم هو محتوى اليمين ؟ لقد علمنا المهندسين كيف يضعون مواصفات البناء القوي المتين، فهل علمناهم الأمانة في التنفيذ والاحتراف في الأداء؟
والآن، هل أنا محق فيما أسرد من حقائق؟ وإذا كان المستوى المتردي وغير المحترف في تأدية بعض المهن أمراً بادياً للعيان فإن ذلك يشير إلى بعض القصور المنهجي في تصميم نظامنا التعليمي العربي. فالتعليم ليس شهادة تمنح بعد اجتياز الطالب لعدد من الساعات المعتمدة المقررة لتخصص ما. وإنما عملية بناء تستهدف تكوين الشخصية المهنية القادرة على الإنجاز المهني المحترف. إن هذا من شأنه أن يمد محاولات توكيد جودة التعليم بقوة الدفع الحقيقية. إن الخطط المنهجية لتدريس المسافات يجب أن تحبك بطريقة علمية مسؤولة. فإذا كنا نعد الطالب ليكون قادراً على القيام بالمهنة التي يريدها ويرغبها فإننا يجب أن نزوده بمتطلبات ذلك. فالبعد التطبيقي في الخطط وإبراز الدور التكاملي للتكنولوجيا التعليمية في إنجازها مسألة ضرورية وملحة تقتضيها مواكبة التطور المتسارع في متطلبات حياتنا. كما لا بد أن تصاغ بالطرق والأساليب العصرية القادرة على التمكين المهني للطالب واستمالة رغبته في ممارستها وفق القواعد الصحيحة لمزاولتها. قبل أسبوع من الآن كنت أقلب صفحات خطة منهجية لتدريس أحد المساقات العلمية في إدارة الأعمال في إحدى الجامعات الأمريكية ذات السمعة المرموقة، فوجدت حالة متقدمة من الإبداع في نسج محتوى هذه الخطة. لقد تم حبك الخطة وفق مصفوفة ذكية وفرت للطالب مدى المعرفة المطلوب من ذلك المساق وتلك التي تتقاطع فيها هذه المعرفة مع معارف مجموعة أخرى من المساقات المطروحة في إطار تخصص إدارة الأعمال بحيث يوفر هذا التقاطع مجموعة من المعارف والمهارات المتكاملة التي تشكل لدى الطالب الخلفية المطلوبة التي تمكنه من التنافس في مجال عمله في السوق.
إن هذا من شأنه أن يجذب الطلاب إلى قاعات التدريس ومكتبات الجامعة وتبقيهم وقتاً أطول في معاملهم ومختبراتهم العلمية. قريبين من تجاربهم المعملية. وتجعلهم أكثر ميلاً للوصول إلى النتائج العلمية والاكتشافات والاختراعات وحريصين على نيل الجوائز والمكافآت التقديرية وتسجيل براءات الاختراع من ميلهم إلى قضاء الوقت الطويل في ساحات الجامعة وطرقها والتفيؤ في ظلال أشجارها. لا حول ولا قوة لهم إلاّ في المساجلات الكلامية والنقاش الحاد الكافية لتوفير الأجواء المشحونة بكل مقومات منهجية العنف والسلوك الجانح التي نشاهد حالاتها في الجامعات العربية من حين إلى آخر.
لقد كنا جميعاً طلاباً في الجامعات، وكان وقتنا في الجامعة موزعاً بين حضور المحاضرات أو الجلوس في المكتبة أو القيام بإجراء تجربة معملية والإشراف عليها ولم تشهد تلك الجامعات من حالات العنف التي نراها الآن. هل طلاب الجامعات الآن غيرنا؟ هل نموذج الطالب الجامعي الآن غيره في الأزمان التي عشناها؟ كانت الجامعة بطلابها وأساتذتها وكوادرها الإدارية في مقدمة صفوف الأمة في كافة الظروف التي تقتضيها ضرورات تأكيدها لسيادتها وعزتها وكرامتها وحرية أبناءها والدفاع عنها. في هذا الاتجاه كان عنفوان طلاب الجامعات يوظف ويستغل وليس لتدمير المنجزات المادية والمعنوية للأمة وضربها في ضميرها ونظامها القيمي والأخلاقي.
رابعاً: الطالب”المنتج البشري”
إذا كنت قد حرصت على تسليط الضوء بكثافة على دور الأستاذ المعلم والكتاب الذي يدرسه فإنني لن أنسى الطالب نفسه من منظومة التعليم في واقعنا العربي المعاصر. وأخص بالذكر مستواه التربوي والعلمي الذي يكون قد تأسس به في مراحل التنشئة الأولى والتعليم الأساسي. فحتى لا نظلم الجامعات ولا نحمل أساتذتها ما ليس لديهم طاقة على حمله ولا نبالغ في تقييم الدور المسند إليها في تكوين شخصية الطالب المواطن الصالح، فإننا لا يجب أن ننسى الدور الموازي لكل من المؤسسة الأسرية التي نشأ فيها الطالب والمدرسة التي تلقى فيها تعليمه الأساسي.
إن لكل من هاتين المؤسستين دوراً حيوياً في مجال الإعداد والتأهيل النفسي والسلوكي والعلمي الذي يؤهله للدخول إلى المرحلة الجامعية والتكيف مع معطياتها ومعايشة ظروف حياتها الجميلة بالمعايير الجامعية وليس بمعايير المدرسة. ولست في ذلك بالقاصد في التقليل والانتقاص من دور المدرسة وإنما أردت توضيح المفهوم الأشمل والأوسع للحياة الجامعية باعتبارها الأقرب إلى المفهوم الحياتي والممارسة المهنية التي تتطلب قدراً أكبر من النضوج والرشد والعقلانية تتجاوز مسؤولية الإعداد له حدود دور المدرسة.
خامساً: الأنظمة وأسس القبول
تشكل الأنظمة والأسس التي تضبط عملية التعليم في كافة مراحله الأساسية والجامعية مدخلا أساسيا في نظام التعليم العربي. ونظرة متأملة لهذه الأنظمة والأسس المعمول بها من شانها أن تعطي صورة سلبية لواقع تطبيقها وانعكاسات هذا التطبيق على أداء ومخرجات النظام التعليمي بمجمله. وتبدو ملامحها واضحة في شخصية المدرس وهيبته وصورته في أذهان الطلاب. وكلها أسهمت في صياغة أنماط سلوكيا تهم في التعامل مع المدرس. فلم يعد المدرس قادرا على القيام بالدور الأبوي الذي أسنده له النظام الثقافي والحضاري والقيمي العربي، وأصبحنا نترحم على الأيام التي كان فيها الأب يحضر ابنه للمدرس ويقول له خذه فأنا عجزت عن تقويم سلوكه. وبالطبع فإن هذا ينطبق على الذكور والإناث معاً. وفي ظل تراجع الدور التربوي الفاعل والفعال للأبوين مع شيوع نظام الخدم المستوردين من بيئات ذات ثقافات وقيم مختلفة عن مضمون النظام التربوي العربي. والتي منها ما يبيح الممنوع في نظامنا ويمنع المباح. مما كان له انعكاسات سلبية على سلوكيات أبناءنا واتخاذها نماذج غريبة وغير سوية أحيانا والتي تكبر معهم ويأتون بها إلى المدارس والجامعات. ثم بعد ذلك نبدأ في البحث عن الأسباب التي تقف وراء تلك النماذج السلوكية لهم. أما عن الجامعات فإنها البيئة المتلقية لمخرجات نظام التعليم الأساسي. حيث يأتي قطاع من طلبة الثانوية العامة اليها حاملين معهم الإرث المنهجي والسلوكي المكتسب في مرحلة ما قبل الجامعة. وعندها يتعين على الجامعات استقبال هذا النوع من لمخرجات التعليمية والتربوية. وعندما تصبح أنظمة وأسس القبول في الجامعات من المرونة ما يكفي لاستيعاب هؤلاء. نبدأ في إثارة الأسئلة حول مدى دستورية بعض أنظمة وأسس القبول الموازي والدولي التي تمكن جلوس من لم تؤهلهم معدلاتهم في الدخول إلى الجامعة إلى جانب من دخلوها بمعدلاتهم التنافسية التي حققوها بجهودهم الحقيقية التي تعتبر القاعدة الأساسية التي تمنح الطالب أهلية القبول في الجامعة. هل من المفروض أن يدخل الأب كل ابن له في الجامعة؟ إذا كان الجواب نعم، فعلينا أن نغلق مراكز التدريب المهني والمعاهد العليا وكليات المجتمع التي يمكن أن ترفد مؤسسات بالوقود البشري القادر على مد تلك المؤسسات بطاقة حركتها المستدامة. إن حركة المجتمع لا يدفعها فقط خريجو الجامعات، بل مخرجات كافة المؤسسات التعليمية في المجتمع. إن هذا بالطبع يحتاج إلى إستراتيجية تعليمية متوازنة تتناغم مع إستراتيجية وطنية شاملة لتنمية وتطوير الموارد البشرية في كل دولة عربية على حدة وفي إطار من التنسيق والتكامل مع الدول العربية الأخرى في إطار الممكن والمتاح.
لقد توسعنا في التعليم الجامعي وظهر العديد من الجامعات ولم نول التعليم الأساسي اهتماماً موازياً ومتكافئاً كما بنفس المقدار الذي أولته إياه الدول المتقدمة. والتي لا يمكن لحكوماتها أن تتنازل عن دورها في القيام به ومسؤولياتها نحوه بالشكل الأكمل وذلك من أجل أن تبقى المؤسسات التعليمية قادرة على استنبات البذور الصالحة لتكون غراس خير تجد في الجامعات أرضها الخصبة ولتجني ثمارها الطيبة في الحياة العملية. في اعتقادي أن هذا هو أساس التقدم في تلك الدول. في بريطانيا على سبيل المثال، فإن الحكومة لا يمكن أن تتنازل عن دورها في امتلاك وإدارة وتنظيم ثلاثة قطاعات أساسية هي: التعليم، الصحة، والمواصلات. إن هذا يضمن وجود المجتمع المتعلم المعافى القادر على التحرك والحركة. أما نحن في الوطن العربي فقد حولنا الجزء الأكبر من مسؤولية الحكومة عن التعليم الأساسي إلى القطاع الخاص الذي لا يهم بعض مؤسساته سوى تعظيم العوائد على أموالهم المستثمرة في المدارس التي شيدووها مع إنفاق القليل على هذا التعليم ليرتقي بجودته إلى مستوى المعايير الدولية.
كذلك بالنسبة للتعليم الجامعي. فقد فتحنا أبواب مؤسساته على مصراعيها وحققنا معدلات عالية تفوق معدلات النمو الاقتصادي ليصبح نظامنا الاقتصادي غير قادر على استيعاب خريجى هذه المؤسسات وليتحول هؤلاء إلى جيش من البطالة أو البطالة المقنعة في أحسن الأحوال. ويستثنى منهم من يكون لأبيه مؤسسة الأعمال التي يصبح مديراً لها أو نائبا لأبيه الذي يكون هو المدير.
ولهذا، فإن أية محاولة لتطوير العملية التعليمية والارتقاء بمستوى الحس الأكاديمي والمسؤولية الوطنية في إنجازها يجب أن تفصل بشكل علمي ودقيق بين مسؤولية المدرسة باعتبارها المؤسسة المسؤولة عن إنجاز مهمة الإعداد العلمي الأساسي، والجامعة باعتبارها المؤسسة المسؤولة عن إنجاز مهمة التعليم العالي والتوجيه المهني لأن من شأن ذلك أن يحدد الأدوار والمسؤوليات بشكل أفضل. وإذا كانت هذه الصورة لمدخلات التعليم العربي قاتمة إلى حد ما، فإنه يصبح بإمكاننا تصور المخرجات المتوقعة منها. فالمخرجات لا تكون إلاّ من نفس جنس وطبيعة المدخلات.
من كل ما تقدم، أستطيع الادعاء بأنني قد وصلت إلى وضع القاعدة والمرتكزات الأساسية لنموذج تعليمي عربي تطوري ليكون محل نقاش ومدخلاً لاستخلاص النتائج. وأرجو أن أكون قد اجتهدت ولي في ذلك أجر، وأن يكون فيما يثيره هذا الطرح من نقاش وحوار ولأصحابه الأجر الأكبر.