بقلم: تالا أبو دقة
رَغبةٌ شَديدةٌ تَجرّني نَحوَ الكِتابة، كأنَّ عَقلي مُمتلئٌ ببحرٍ من الحكاياتِ الّتي تَتحيَّنُ فُرصةَ وقوعِ القلمِ على الورقِ، فَتتدفَّقُ بدلَ المِدادِ. أَكبَحُها غَالِبًا بِدعوى الإعياءِ أو عَدَم مُلاءمةِ الظُّروفِ لأَجواءِ الكِتابةِ والإِلهامِ.
أَحيانًا أَقتنِعُ، فَيَنتهي اللهيبُ وتَهدأ العاصِفةُ، لأعودَ إلى روتيني المَألوفِ. وفي أَحايين أُخرى، تَشتدُّ حَرارتُها وأَتغلَّبُ على تَقاعُسي بسُرعةٍ، فأنكَبُّ على قَلَمٍ وورَقٍ، أو أَكتَفي بِمُذكِّرةِ الهاتفِ غالبَ الأوقاتِ.
أَستعِدُّ وأُطلِقُ العنانَ لِمُخيّلتي، كي تَسردَ لي ما أَكتُبُ وتُنقِذَ عَقلي من القُنبُلةِ المُوشِكةِ على الانفجارِ. مَشاعِرُ مُبعثَرةٌ لا أَعلَمُ لها بِدايةً ولا نِهايةً، ونَفْسٌ تائهةٌ بين مَدحٍ وقَدحٍ يُحيطني كَسَرابِ رَملٍ خانقٍ في صَحراءِ”أَريزونا”، أو كعاصِفةٍ هوْجاءَ حَطَّت بِبَحرٍ وابتلَعَتني إليها.
هَل يا تُرى ستَقودني إلى “أَطلَنطس”؟ أَم أنّها ستَكتفي بِطَردي إلى جَزيرةٍ مَهجورةٍ في أَفضلِ الأحوالِ؟ لَم أَعُد أَعلَمُ ما إذا كان فيلمُ “توم هانكس” سيُنقِذُني من التِّيهِ، أَم أنّ “الصَّديقَ” الذي وَجدتُ لنَفسي أن أَكونَه هو نَفسُهُ الذي يُغرِقُني وأنا أُحاولُ العودةَ إلى الواقِعِ.
كُلُّ ما أَعلَمُهُ أَنّني سأُقاوِمُ حتَّى آخِرِ نَفَسٍ. فَعَزيمَتي أَقوى من الأعاصيرِ، وأَحلامي مِثل النُّجومِ صافيةٌ لَيلةَ بَدراءَ تَمامًا، تأخذُ وقتًا طويلًا حتَّى تَموتَ، وحتى عندما تَفعَل، يَبقى نُورُها يُضيءُ العَتمةَ حتَّى ظهورِ بَديلٍ أَفضلَ لها.
ولأنَّ أَحلامي مِثلُ النُّجومِ لا تَموتُ سَريعًا، فَحتمًا سأَموتُ قَبلَ أن تَفعَلَ. وإن شاءَ اللهُ تعالى، لا شَكَّ أَنَّها سَوفَ تَتحقَّقُ!
لكن في أعماق هذا اليقين، أُدرك أنَّ تحقيق الأحلام لا يأتي وحده. هو صراعٌ طويلٌ بين الأمل واليأس، بين التقدّم والتراجع، بين الكلمة التي تُكتَب اليوم وتلك التي تُدفَن غدًا تحت ثقل الخوف أو الانتظار. قد أتعثّر وأفقد لحظةً إيمانًا بما أسعى إليه، لكنّني أعود دائمًا إلى جذْوَة الحكاية الأولى، تلك الشّرارة الّتي انطلقت ولم أعد أستطيع إخمادها.
الحياةُ نفسها تُشبه الكتابة؛ رحلةٌ مليئةٌ بالصّفحاتِ البيضاءِ، بعضها يكتملُ وبعضها يظلُّ شاغرًا. كلُّ كلمةٍ أكتُبها هي محاولةٌ لاستيعاب هذا البحر الهائج الذي هو عَقلي، وكلُّ صفحةٍ جديدةٍ هي أملٌ بِأن أجدَ في نهاية المطافِ جزيرتي المنشودَة، سواءً كانت مَلاذًا هادئًا أو أرضًا جديدةً أبتكر فيها عوالمَ أُخرى.
وفي كلِّ لحظةٍ أواجه فيها نفسي وأُمسكُ القلم، أُدرك أنَّ الكتابةَ ليست فقط وسيلةً لتفريغ ما بداخلي، بل هي في الحقيقة هُويّتي، وألمي، وفرحي، وصوتي الّذي يرفض الصّمت مهما اشتدّ الظلام. وسأظلُّ أكتبُ، لأنَّ الكتابةَ هي الحياة، ولأنَّ الحياةَ لا تنتهي حتى يَكتبَ القدرُ نهايته الأخيرة.